محمد الصياد

عدة هي البقاع التي ما زالت تشكل محاور التوتر المتنازع عليها إقليمياً ودولياً . إلا أن أغلبيتها العظمى تبقى نقاط توتر صغيرة وrdquo;منخفضةrdquo; الشأن والاهتمام الدوليين، بالقياس إلى القضية الأكبر التي تشكل في الوقت الراهن بؤرة اهتمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة لها، وهي قضية الملف النووي الإيراني ومواقف التجاذب الإيرانية إزاء ما يعده الغرب مصالحه في منطقة الشرق الأوسط . هي بالتأكيد ليست القضية الأكثر إلحاحاً في سلم الأولويات المفترَضة للأسرة الدولية بالقياس إلى قضية الشعب الفلسطيني، وقضية الصراع العربية ldquo;الإسرائيليrdquo; عموماً وملف التسلح النووي الكوري الشمالي . ولكنها اليوم تتصدر قائمة الأسهم المتدالة في بورصة الاهتمام الغربي الذي يحدد، شئنا أم أبينا، بوصلة وجدول أولويات المجتمع الدولي .

في الأيام القلية الماضية أرسل الغرب وإيران إشارات صريحة تُنبىء بوصول الطرفين إلى قناعة بضرورة إعادة تقييم جدوى استمرارهما في مقاربة المواجهة والاحتكام إلى معادلة العائد والتكاليف لهذه المقاربة . والانعطاف، ترتيباً، نحو مرحلة جديدة من الانفراج على غرار سياسة الانفراج التي تخللت فترة الحرب الباردة بين الشرق والغرب إبان عقود الصراع التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1990 .

إذ يبدو أن الطرفين، الإيراني والغربي -الأمريكي تحديداً، قد وصلا إلى ما يشبه القناعة بأن الوقت قد أزف لكليهما، بعد 34 عاماً من سياسة المجابهة الباردة، والساخنة أحياناً، لأن يضعا هذه السياسة جانباً، ولو مؤقتاً، وأن يتوجها معاً لتجريب الخيار الآخر الذي لابد أن يكون مر المذاق بالنسبة إلى كليهما، وهو اتباع سياسة الانفراج والتقارب والتوافق، تحت ضغط الحاجة والضرورة .

فالجانبان الإيراني والأمريكي تعبا من التكلفة الباهظة لسياسات المجابهة والحروب . فقد استُنزفا مالياً واقتصادياً وبشرياً ونفسياً، ولكن ليس أخلاقياً بالتأكيد .

إيران اقتنعت بوصول خيارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى طريق مسدود، بعد أن تيقنت قياداتها الروحية والسياسية باستحالة فصل وتحييد العامل الخارجي عن متغير التنمية الوطنية، بفعل المعاناة والآلام المؤذية التي سببتها حزم العقوبات الغربية المتوالية على اقتصادها

الذي لازال يتموَّل ماليا من إياردات النفط والغاز بالدرجة الأساس .

الولايات المتحدة هي الأخرى لابد أن تكون قد استشعرت وطأة أزمات عجوزاتها المالية (الموازنة والدين العام)، والتكلفة الباهظة لسياسات الحروب الساحنة والباردة . فكانت نتيجة استشعار الطرفين لتكلفة ذلكم الخيار، هي إتيان الولايات المتحدة برئيس من خارج دائرة الرؤوس الحامية، وهو باراك أوباما، وإتيان إيران برئيس من خارج الدائرة المغلقة والمتنفذة اقتصادياً ومالياً وعسكرياً للمتشددين . رئيس جرى تقديمه للعالم على أنه داعية تفاهم وتصالح وتوافق مع العالم الخارجي الذي دأبت طهران منذ عام 1979 على التعامل معه بلغة التحدي والقوة .

ومع ذلك، يجب ألا يظنن أحد أن التقاء القناعتين والإرادتين في هذا الظرف التاريخي الحرج الذي تجتازانه، سيكون وحده كافياً لعبورهما إلى البر الآخر الذي تستشرفان فيه مستقبل علاقاتهما . فلسوف تواجه رغبتا البلدين في إحداث نوع من الاختراق في علاقاتهما المتوترة، مقاومة صلبة في محاولة لتعطيل وإفساد اقترابهما من التهادن .

بالنسبة إلى رئيس الولايات المتحدة، فإن مقاومة سياسته التقاربية مع إيران، لا تقتصر على الأجنحة اليمينية المتطرفة داخل الحزب الجمهوري وخارجه وحسب، التي بدأت سريعا لإحباط مسعاه بقطع الطريق أمام إدارته لاقرار الموازنة العامة للدولة من أجل انتزاع تنازل سياسي منه في ما يتعلق باتصال إدارته بالإدارة الجديدة في إيران، إضافة إلى تنازله عن برنامجه الخاص بالرعاية الصحية الذي صار يُطلق عليه ldquo;أوباما كيرrdquo; (Obama Care) نسبةً إلى صاحب فكرته وتصميمه الرئيس باراك أوباما، وإنما تشمل، وبصورة موازية، أنصار ldquo;إسرائيلrdquo; داخل النظام السياسي الأمريكي وخارجه .

وأما بالنسبة إلى الرئيس الإيراني (حسن روحاني)، فإن العديد من مراكز القوى المتنفذة داخل النظام لن تُسلِّم له بسهولة كي يواصل السير قدماً في نهجه التصالحي مع الغرب . وكانت ملاحظة مرشد الجمهورية على نتائج زيارته لمدينة نيويورك للمشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للامم المتحدة، بمثابة إشارة تحذيرية للفرملة وإبطاء نسق الاندفاع نحو التوصل لصفقة ما مع واشنطن .

بهذا المعنى، تحاول البراغماتية السياسية التي تميز عادة الممارسة السياسية للبلدين، أن تزيح الإيديولوجيا قليلاً من ldquo;سكتهاrdquo; وتحل محلها للقيام بأداء وظيفتها المعتادة على أكمل وجه . ولكن مواقع الإيديولوجيا ما زالت راسخة لدى كل منهما . ومن الصعب التنبؤ لمن ستكون له الغلبة في نهاية المطاف . . للإيديولوجيا المغلقة أم للبراغماتية المرتكزة أكثر من الأولى على المصالح الكلية والجارية؟