أسعد عبد الرحمن


كي نعرف أثر laquo;الربيع العربيraquo; على القضية الفلسطينية، يجب أن نقرر ما إذا كان ربيعاً بالفعل، وهل هو عربي حقاً أم أنه ربيع إسرائيلي كما يقول البعض، أم laquo;موجة إسلامية سنية يتعين كسرهاraquo; كما بعض آخر، أم laquo;عملية فتح للمجاري العربية لتسريب كل القاذوراتraquo;، قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية على حد تعبير بعض ثالث، أم أنه laquo;سايكس -بيكو جديدةraquo; كما قال بعض رابع ضمنه محمد حسنين هيكل... إلخ؟

تسميات كثيرة استخدمت لوصف أحداث العالم العربي منذ قام الشاب التونسي محمد البوعزيزي، في 17 ديسمبر 2010، بإضرام النار في نفسه أمام مقر laquo;ولاية سيدي بوزيدraquo;، احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية عربةً كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، وللتنديد برفض سلطات الولاية قبول شكوى أراد تقديمها في حق شرطية صفعته أمام الملأ وقالت له بالفرنسية: laquo;ارحلraquo;، الكلمة التي أصبحت شعار الثورة للإطاحة ببن علي، ثم أصبحت شعاراً لما جرى من انتفاضات أو هبّات أو ثورات في عدد من الدول العربية الأخرى.

هناك مقدمة لا غنى عنها تختص بالسياق التاريخي النظري والفعلي للأحداث المتسارعة منذ ذلك اليوم. فحين ننظر للحظة الراهنة، أو وضع الأحداث في سياقها التاريخي، علينا أولاً ألا نحكم على هذه من خلال نظارة المرحلة الانتقالية وإنما في السيرورة التاريخية (كما حدث مع الثورات الأخرى، الفرنسية، والروسية، والصينية... إلخ)، بالإضافة إلى الإنجازات المتحققة مقابل المفاعيل والتفاعلات الراهنة ذات الطبيعة الانتقالية. وأخيراً: متى بدأ الربيع حقاً، يوم الانفجار (التتويج)، أم مع بدء الإرهاصات؟

من خلال مراجعة أوضاع تلك البلدان عشية حراكاتها الاحتجاجية، يتأكد لنا أنها كانت تتجه نحو الانفجار الكبير، وأن ما حدث لم يفاجئ ولا يجب أن يفاجئ إلا أولئك الذين لا يعرفون طبائع التاريخ. وتتلخص أهم الأسباب في انتشار الفساد السياسي والإداري والمالي والاقتصادي، والتضييق السياسي والأمني وتزوير الانتخابات التي كانت وسيلة لتكريس الاستبداد وإقصاء الشعوب عن المشاركة في الحكم، وأداة لزعزعة الاستقرار، والركود الاقتصادي وسوء الأحوال المعيشية، ووسيلة لتشبث الحكام (بل توريث أبنائهم) بالكراسي لعقود طويلة، ناهيك عن مجيئهم للحكم أصلا بطرق غير شرعية، علاوة على أن كون معظم الدول العربية امتلكت سجلاً سيئاً في حقوق الإنسان، وكأني بها تعيش في القرون الوسطى. لذا، فإن تلك الحركات السلمية كانت في حقيقتها حركات شعبية ضد نظم مستبدة تجاهلت التنمية الحقيقية لمجتمعاتها واستمرأت اضطهاد مواطنيها. ولم يكن من المعقول أن تستأثر أنظمة استبداد أقلوية بالخير العام، فيما السواد الأعظم من الشعب يعاني الفقر والبطالة وفقدان الحرية.

ما جرى في العالم العربي، على النحو الذي جرى عليه، لم يكن في حسبان أحد، جاء عفوياً. لذا، ما زالت مقولة laquo;الربيع العربيraquo; تثير إشكالات عدة: هناك من وصف هذه الأحداث بالثورات أو الانتفاضات، وآخرون اعتبروها تمرداً، وهناك من أسموها مباشرة laquo;الربيع العربيraquo;، بل اعتبر البعض أنها الشرارة لانطلاق الثورة الديمقراطية في العالم العربي. ومن الباحثين من نفى عنها صفة laquo;الربيعraquo; نظراً لضآلة الإنجازات التي حققتها حتى الآن، ومنهم من أكد النهاية السريعة لـlaquo;الربيع العربيraquo; بعد أن حل مكانه laquo;خريفraquo; وlaquo;شتاءraquo; ثورات تحت وطأة تحديات تيارات أصولية استلمت مقاليد الحكم أو كادت. وعليه، ما من وصف ينطبق بنفس الدقة على جميع هذه الأحداث العربية، بالنظر إلى تباين الدول واختلاف طبيعتها ومن ثم صعوبة إدراجها تحت مسمى واحد. غير أنها اشتركت في أسباب عميقة مؤدية لاندلاعها على رأسها انكسار عامل الخوف عند الجماهير الواسعة بعد تراكمات الإحباط من غياب الديمقراطية، وحرمانها من حقوقها الأساسية وحرياتها الفردية، وانعدام العدل الاجتماعي. وفي هذا يقول الكاتب الأميركي توماس فريدمان: laquo;إذا كان هناك إطار يلخص مواطن القوة والضعف في الصحوات العربية فهو ذلك الذي قدمه دانييل برومبرج، المدير المساعد لبرنامج دراسات الديمقراطية والحوكمة بجامعة جورجتاون، عندما لاحظ أن الصحوات العربية حدثت لأن الشعوب العربية لم تعد تخشى قادتها، لكنها تعثرت لأن الشعوب لم تتخلص من الخوف من بعضها البعضraquo;. ويضيف فريدمان: laquo;التخلص من هذا الميراث سيحتاج إلى ما هو أكثر من الإطاحة برؤوس هذه الأنظمة. سيحتاج إلى ثقافة التعددية والمواطنة. وحتى يتحقق هذا، ستظل القبيلة تخشى غيرها من القبائل في ليبيا، والطائفة تخشى غيرها من الطوائف في سوريا، وسيظل العلمانيون والمسيحيون على خوفهم من الإسلاميين في مصر وتونس، وستبقى فلسفة (الحكم أو الموت) منافساً شرساً لمبدأ (رجل واحد، صوت واحد)raquo;.

اليوم، تواجه دول laquo;الربيع العربيraquo;، بلا استثناء، مشكلات عديدة وإحباطات متزايدة جعلت البعض يتحسر على أنظمة بائدة. ورغم أن هذا البعض يرى فيما يقوله طرحاً مخجلاً لنفسه، إلا أنه حقيقة واقعية لا يمكن تجاهلها. فاليوم نشاهد تلك الجماهير نفسها التي خرجت تطالب بإسقاط الأنظمة الفاسدة، تخرج مجدداً تنادي بسقوط أنظمة جاء بها laquo;الربيع العربيraquo;، رغم إقرارنا بأن الحدث بمجمله لم يتجاوز عامين إلى ثلاثة أعوام في بلدان عاشت عقوداً من الاستبداد والفساد، وأن هذه الدول تعيش مرحلة انتقالية يتوقع فيها حدوث أي شيء من نوع الانقسام القائم في الآراء وتعطل العملية السياسية. لكن الخوف اليوم هو في استمرارية الوضع على ما هو عليه، حيث باتت الخشية تدور حول الصراع الطائفي بل المذهبي، ومعه الصراع الأثني، الذين استشريا في الجسد الشعبي العربي: الأقباط والمسلمون في مصر، التوتر السني العلوي الكردي المسيحي في سوريا، وكذلك السني الشيعي والعربي الكردي في العراق، دون أن ننسى الانقسامات المتعددة الأبعاد في لبنان، والصراعات القبلية المذهبية في اليمن، وكذلك خلافات الإسلاميين مع بقية قوى المجتمع (بالذات القوى العلمانية بمختلف مكوناتها اليسارية والليبرالية والقومية) في ليبيا وتونس وأخيراً في مصر. وعليه، فخلاصة القول، إنه لا يزال من المبكر النوم على مخدة التفاؤل المطلق، أو السقوط في حفرة التشاؤم المطلق.. وحسبنا أن نكون بين هذا وذلك، laquo;متشائلينraquo;، من المفردة التي صاغها المبدع laquo;أميل حبيبيraquo;.