محمد خليفة

نعلم أن الحياة ليست بوجود فقط، بل إنها صيرورة وجود، أي أنها تطور دائم وتبدل مستمر . وفي هذه المرحلة بخاصة يجب أن يكون لنا ذلك الاستبصار الذي ينفذ إلى عوالم جديدة، فالوضع العالمي الراهن بمعادلاته المعقدة واتجاهاته المستقبلية يستوجب أن نكون شديدي التعقل، وأن أولى الحقائق التي يتوجب علينا أن ندركها أن الغرب بدأ يفقد قدرته على الصمود طويلا أمام الأزمات الاقتصادية الطاحنة . فعلى الرغم من سطوة واتساع الامبراطورية الأمريكية في العالم إلا أن ذلك يخفي تحته انهياراً على مستويات مختلفة . فهناك الانهيار الاقتصادي في الداخل الذي بات يشغل بال المسؤولين الأمريكيين، وهناك في الخارج انهيار اقتصاد الحلفاء في أوروبا الذين باتوا على شفير الإفلاس الجماعي بعد تعدد كوارث الإفلاس في بعض الدول الأوروبية .

لقد بات المشهد الغربي -بشكل عام- معتّماً بالرغم من توقيع الرئيس أوباما صباح يوم الخميس الماضي على قانون رفع سقف الدين الحكومي بعدما أقره الكونغرس بمجلسيه، ودعوة جميع الموظفين الفيدراليين الذين أجبروا على التوقف عن أعمالهم إلى العودة إلى أعمالهم . وذلك بعد أن وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على رفع سقف الدين الحكومي . وتتضمن التسوية التي تم التفاوض حولها بين الجمهوريين والديمقراطيين إجراء يسمح للخزانة بالاستمرار بالاقتراض حتى 7 فبراير/شباط، وإعادة فتح المؤسسات الحكومية بشكل كامل حتى 15 يناير/كانون الثاني المقبل .

وكان وزير الخزانة الأمريكي جاكوب ليو قد حذّر الأسبوع الماضي من أن الفشل في رفع سقف الدين العام للولايات المتحدة خلال الأسابيع المقبلة يمكن أن يؤدي إلى كارثة اقتصادية . وأضاف، ldquo;إن استمرار الغموض بشأن قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها المالية بشكل كامل وفي التوقيتات المحددة أضر باقتصادناrdquo; . والواقع أن المشكلة التي يواجهها الكونغرس لا تتعلق بموضوع رفع سقف الدين بحد ذاته، لكن بالسؤال المصيري وهو، ماذا بعد؟ فإلى متى ستستدين الولايات المتحدة؟ إذاً، من غير المعقول أن تبقى هذه الدولة العظمى تعيش على الدين . إنها تبدو اليوم مثل المقامر الذي خسر كل أمواله وهو يستدين ليقامر أكثر لعله يحظى بفرصة للفوز، لكن جهوده تذهب سدى ويواجه في النهاية الحقيقة المرة .

إن الخزانة الأمريكية لم يعد يوجد فيها سوى أقل من 30 مليار دولار وهو مبلغ لا يسد سوى جزء ضئيل من احتياجات الدولة الأمريكية . ولذلك فقد تم إغلاق الكثير من المؤسسات الأمريكية، وأصبح ما يقارب من 800 ألف موظف عاطلين من العمل، حتى وكالة الفضاء الأمريكية ldquo;ناساrdquo; التي يشتغل فيها نحو 20 ألفاً بين عالم وخبير ومهندس وفني، فقد تم الاستغناء عن خدمات معظم هؤلاء ولم يبقَ سوى 900 موظف على رأس أعمالهم لتسيير العمل فقط . وكانت إدارة الرئيس أوباما قد طلبت رفع سقف الدين في يونيو/حزيران عام 2011 وكان الدين الحكومي آنذاك 14 تريليون دولار، وقد حصلت مواجهة كبيرة في الكونغرس بين الديمقراطيين والجمهوريين الذين عارضوا بشدة رفع السقف وطالبوا إدارة أوباما أن تتوقف عن سداد خدمة الدين ldquo;الفوائدrdquo;، وأن تقوم بدلاً من ذلك بسداد الديون مباشرة من أجل تخفيفها ومن ثم التخلص منها بشكل دائم .

لكن خبراء الاقتصاد حذروا من أن توقف الإدارة الأمريكية عن دفع الفوائد سيؤدي فوراً إلى انهيار البورصة العالمية وبالتالي انهيار الدولار الأمريكي، ولذلك فقد وافق الكونغرس على مضض، على رفع سقف الدين حتى حاجز 16 تريليون و700 مليار دولار . ويبلغ نصيب الجهات الخارجية من هذه الديون 7 .11 تريليون دولار، أما الباقي فهو لأطراف داخلية كحكومات الولايات والشركات الأمريكية، وتملك الصين واليابان أكبر نسبة من هذه الديون التي هي بالأساس سندات خزينة تطرحها وزارة الخزانة الأمريكية لتمويل عجز الموازنة وتدفع عنها فوائد شهرية للمشترين . وقد بلغ حجم الدين الحكومي للولايات المتحدة نحو 37% من حجم إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وهي النسبة الأعلى في تاريخها، والإنفاق المؤقت الذي توصل إليه الكونغرس سيؤدي إلى زيادة حجم الأزمة لأن الدائنين وقد فقدوا ثقتهم في الاقتصاد الأمريكي سيبادرون إلى المطالبة باسترداد ديونهم عند استحقاقها، ما سيقود إلى مزيد من الانكماش الاقتصادي، خصوصاً أن التمويل المتفق عليه لاستمرار عمل الأجهزة الحكومية سيأتي عبر تكليف مجلس الاحتياط الفيدرالي بطباعة أوراق نقدية جديدة، وبالتالي زيادة التضخم وانخفاض سعر الدولار خلال الفترة القصيرة المقبلة .

وإزاء كل ما يحدث فإن تأجيل الانهيار عبر اللعب على عامل الزمن لن تكون له نتائج حميدة، والبحث عن حلول جذرية للأزمة سيقود إلى طريق واحد لا بديل عنه ويتمثل في إعلان الإفلاس . وهذا الأمر ليس عيباً، ومهما كان ذلك صعباً، فإنه أهون بكثير من الانهيار الاقتصادي المفاجئ، حيث سيكون بإمكان الولايات المتحدة المحافظة على وجودها كدولة موحدة وذات وجود في العالم، أما إذا كابرت واستمرت في الاستدانة، فإنها قد لا تبقى دولة موحدة، بل ستتفكك إلى دول بعدد الولايات التي تتألف منها، وإلى زوال قوة الغرب إلى الأبد، وبخاصة بعد أن فشلت عهود في تحطيم الأغلال التي كبلته منذ أن دفعت بالفلسفة المادية، وإلى التحرك ضد الفطرة الإنسانية، وجردته من ماضيه وقدره وأعماقه، وحملته إلى عالم فاقد المبدأ الذي كان يمسك بلبناته، ويوحد بين أجزائه، ويضفي عليه الحقيقة والمعنى، ويتجاوز المعلوم إلى المجهول، والواقعية في ميدان التعاطف العقلي، وفي كل الإيديولوجيات والقواعد البشرية .

وكما سقط الاتحاد السوفييتي اقتصادياً وهو في أوج قوته العسكرية، فإن الولايات المتحدة تشرب من الكأس نفسها، فالسعي إلى إخضاع العالم هو مهمة مستحيلة لدولة بعينها . نعم لقد حقق الأمريكيون كثيراً من أهدافهم المرسومة، والتي تتمثل في السيطرة على مناطق النفوذ وإخضاع معظم حكومات دول العالم، لكن ذلك كان على حساب قوت المواطن الأمريكي، فشن الحروب المتكررة على ldquo;الدول العاصيةrdquo; والدفع من غير حساب للحكومات الموالية، وشراء الولاءات في العالم، والهوس في امتلاك الترسانات الحربية وغزو الفضاء وسوى ذلك من المشاريع الضخمة التي كلفت المليارات، كل ذلك كان حصاده مراً وتمخض عن هزائم اقتصادية يدفع ثمنها الأمريكيون قبل غيرهم .

إن المأساة كبيرة ليس على الشعب الأمريكي فقط، بل على العالم أجمع لأن انهيار الدولار سيؤدي إلى حدوث كوارث اقتصادية في كل مكان في العالم، لأنه عملة عالمية يتم بها تسعير كل التجارات والصفقات عبر العالم . لأنه العملة الأولى عالمياً، وبالتالي فإن الضرر سيلحق العديد من الدول، خاصة تلك التي ربطت عملتها بالدولار، وكذلك الدول التي حاولت مراراً مساندة الدولار اقتصادياً . فهل يتعلم السياسيون المهووسون بالقوة، أن القوة وحدها لم تحل دون تفكك الاتحاد السوفييتي إلى دويلات رغم ما يملك من ترسانة، كانت تعد الأقوى في حينها، فهل وعى الأمريكيون الدرس متأخراً؟

تلك هي الحقائق بعد أن حولت الرأسمالية الليبرالية شعاراتها إلى قوى استعبادية استقطابية مصلحية سياسية، وأصبحت في التطبيق رمزاً للقمع والمصالح، وإسقاط المبادئ والقيم حتى التاريخ .