فيصل القاسم


لو دققنا في طبيعة المعارضين الذين استلموا السلطة أو الذين يصارعون بعض الأنظمة لاستلام السلطة أثناء الثورات وبعدها لوجدنا أنهم في بعض الأحيان صورة طبق الأصل من الطواغيت الساقطين والمتساقطين. ولا عجب، فالمعارضات العربية مصابة بنفس أعراض الأنظمة الحاكمة. وقد لاحظنا في الماضي أن بعض أحزاب المعارضة في بعض الدول العربية كانت ومازالت حكراً على بعض العائلات والأشخاص وذريتهم. ففي سوريا مثلاً تصوروا أن الحزب الشيوعي كان وما زال ملكاً عائلياً يتناوب عليه أبناء وأقرباء عائلة معينة. لا فرق أبداً بين النظام ومعارضيه. بعبارة أخرى، quot;ما حدا أحسن من حداquot;، فكما أن الرئيس السوري ورّث الحكم لابنه، فلا بأس أن يورث أصحاب الأحزاب quot;المعارضةquot; الحزب لأبنائهم وذريتهم. وهذا الأمر لا يقتصر على سورية، بل هو موجود أيضاً في مصر، وبشكل صارخ أيضاً في السودان، حيث تحولت بعض أحزاب المعارضة إلى ما يشبه quot;العزبةquot; العائلية. وبما أن المعارضين يتشبهون بالطغاة الحاكمين، فكيف تنجح ثوراتنا إذاً. هل ثارت الشعوب لكي تستبدل quot;الببسي بالكوكا كولاquot;، أو quot;السبرايت بالسفن أبquot;؟

لقد قال المفكر عبدالله القصيمي عام ١٩٦٣: quot;لكل مستبد معارضة مستبدة تحمل صفات الطاغية إذا وصلت إلى الحكمquot;. بعبارة أخرى، فإن معارضي الطواغيت يحملون الكثير من صفات الطاغوت. لهذا يتصرفون بطريقة طاغوتية عندما يصلون إلى السلطة. وما ينطبق على المعارضين، ينسحب أيضاً على عامة الناس، الذين تربوا على كل مكونات الطغيان، خاصة إذا عاشوا تحت حكم طاغية لعقود وعقود. فمن المعلوم أن الطاغية ينقل طبائعه إلى بقية أفراد المجتمع، فالأب في المنزل يصبح طاغية صغيراً، وكذلك المعلم في المدرسة، والواعظ في المسجد، والمدير في العمل، وهلم جرا، بحيث يصبح الطاغية متجسداً في شعبه. وبالتالي، لا قيمة أبداً لسقوط الطاغية وترك الثقافة العامة التي أنتجها على حالها دون تغيير، فالعقلية التي أنتجت الطاغية يمكن أن تنتج غيره.

وقد لاحظنا مثلاً أن بعض الثوار الذين انتصروا على نظام القذافي في ليبيا لا يختلفون عنه قيد أنملة، لا بل إنهم قد يتفوقون عليه في الاستئثار بالسلطة وإرهاب معارضيهم. وكذلك حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، والذي حدث جعل بعض الساخرين يقول: quot;الفرق الوحيد بين العهود السابقة والعهود الجديدة، أننا في الماضي كنا نتعامل مع طاغية واحد وأولاده، أما الآن فقد أصبح عدد الطواغيت لدينا بالمئات والألوفquot;، لأن الكثيرين ممن حلوا محل الطواغيت الساقطين راحوا يبارزونهم في الطغيان والتسلط، ليس فقط في ليبيا والعراق، بل أيضاً في معظم البلدان التي سقطت فيها الأنظمة القديمة. ففي الصومال برزت عشرات الجماعات التي تتصرف كما كان يتصرف الطاغية سياد بري، وكذلك في سوريا الآن.

ومن أبرز مظاهر هذا المرض الطاغوتي الذي ابتلي به العرب أن الثوار يتصارعون فيما بينهم بعد النصر، فيحولون البلاد إلى خراب ودمار. وقد شاهدنا ذلك في معظم الدول التي تخلصت من طواغيتها، فتذبح المجاهدين في أفغانستان، وكذلك نظرائهم في الصومال، وسوريا، والعراق وليبيا، وكأنهم لم يثوروا على الطغاة، بل كي يحلوا محلهم في احتلال البلاد واستعباد العباد.

باختصار، فإن الثورة على الطغاة قد تنتصر بسرعة، لكنها لا شك أنها ستستغرق وقتاً طويلاً كي تنتصر على ما زرعه الطغاة داخلنا، لهذا تعاني ثوراتنا الآن مما خلفه الطغاة وراءهم من طبائع طاغوتية. فما تعلمته الشعوب على مدى عقود على أيدي الطواغيت لا يمكن أن تتخلص منه خلال سنة أو سنتين، فحتى التدخين يصعب تركه بسهولة. فالطاغية ينفق جسداً، لكنه يبقى روحاً في نفوس الملايين من شعبه لسنوات وسنوات بعد نفوقه.

فما أسهل أن نتخلص من الطاغية الذي يحكمنا، وما أصعب أن نتخلص من الطاغية في ذواتنا. القذافي مثلاً مات، لكنه ما زال حياً يُرزق في نفوس يعيش في نفوس معظم الليبيين تفكيراً وعملاً، كما نرى من تصرفات من حلوا بعده في السلطة.

لن ننتقل إلى عهود جديدة بعد الثورات بمجرد أننا تخلصنا من الطغاة. لا أبداً، فلابد أن ننتظر ولادة أنظمة ومعارضات جديدة لم تتلوث بأمراض الأنظمة القديمة، بحيث تكون نظيفة تماماً من الإرث الطاغوتي الذي تربت عليه أجيال وأجيال.

لقد صدق أحدهم عندما قال:quot; العمل الصعب هو تغيير الشعوب. أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائياً عندما تريد الشعوب ذلكquot;.