عرفان نظام الدين

ما فعله الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني في الأسابيع الأولى من ولايته قلب الأوضاع في المنطقة رأساً على عقب وأثار زوبعة من التحليلات والشكوك والمخاوف والتوقعات بالنسبة إلى إيران من جهة، ومستقبل المنطقة من جهة ثانية.

والغريب أن الإعلام الأجنبي ركز على قضايا هامشية مثل عدم عقد القمة بين روحاني والرئيس الأميركي باراك أوباما والاكتفاء بالحديث الهاتفي لمدة 15 دقيقة في إطار المجاملات أو على تفاصيل صغيرة مع التركيز الكامل على الملف النووي الإيراني.

وبالنسبة إلى العرب لا يقتصر الاهتمام ومعه الأمل على حل الملف النووي بل يطاول كل شاردة وواردة في المنطقة من الشرق الأوسط إلى الخليج، ومن لبنان وسورية وأزماتها وحروبها إلى البحرين وخصوصاً دول الخليج.

ومن هنا جاء الأمل بقرب انفراج الأوضاع والتبشير بحلول وتسويات مقبلة لا يفنى فيها الغنم ولا يموت الراعي لأن المنطقة تجلس على برميل بارود منذ قيام الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني بدءاً من نظرية تصدير الثورة الإسلامية (الإيرانية) مروراً بالحرب العراقية- الإيرانية التي قال فيها الإمام الراحل عند توقيع اتفاق وقف إطلاق النار انه كمن يتجرع كأس السم، وصولاً إلى الحرب في سورية، والأزمة اللبنانية التي تلعب إيران دوراً محورياً في مفاصلها وتفاصيلها.

وقد أدى هذا التراكم في الأحداث، وتداعياتها الدامية في أماكن متعددة إلى اشتعال نار أخرى حارقة ومدمرة وهي نار الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة التي بدأت في العراق عندما غضت إيران الطرف عن الغزو الأميركي لهذا البلد العربي من أجل إسقاط الرئيس صدام حسين، عدو الأمس الذي سقاها كأس السم، ثم في دعم قيام حكم طائفي.

هذا المشهد المعقد والمتداخل يبرر الضجة الكبرى التي أحدثها قدوم روحاني إلى سدة الرئاسة الإيرانية، ثم ما صدر عنه من تصريحات تدعو إلى الانفتاح على الولايات المتحدة والغرب من جهة وعلى السعودية ودول الخليج ودول المنطقة من جهة ثانية، بعد سنوات عجاف لم يترك فيها سلفه الرئيس أحمدي نجاد مكاناً للصلح ولم يترك يوماً يودعه إلا مع توتير جديد وأزمة تولّد أزمة.

والآن ماذا سيحدث بعد ما جرى وهل ستنجح عملية كسر جدار الجليد في تحقيق هدف الانفتاح وهو إتمام مصالحة مع النفس ثم مع الغرب ومع دول الجوار من أجل حقن الدماء ووقف الحروب.

التوقعات كبيرة... والشكوك كثيرة... والمخاوف من انتكاسة أكبر لأن نتائجها وتداعياتها ستكون خطيرة قد تصل إلى المواجهات العسكرية واندلاع حروب مدمرة لن تكون إيران ولا دول المنطقة بمنأى عنها.

المؤكد أن روحاني لم يصل إلى الرئاسة إلا برضى المرجع الأعلى الإمام علي خامنئي، على عكس الانتخابات السابقة عندما خاض المحافظون والإصلاحيون معركة كسر عظم. ومن الأكيد أن الرئيس الإيراني لم يدل بتصريحاته عن الانفتاح، ولم يعقد لقاءات في نيويورك مع الرئيس الفرنسي وغيره وسمح بلقاء وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف مع نظيره الأميركي جون كيري ثم لم يقبل الحديث الهاتفي مع الرئيس أوباما إلا بعد نيله إذن سماح من المرجع أو على الأقل على تشجيع ضمني حذر على أساس laquo;إذهب وجرب... وأنا سأظل بعيداً عن الصورة حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسودraquo;.

فإيران تشعر بحاجة ملحّة للخروج من عنق الزجاجة وإنهاء الحصار الاقتصادي عليها، فهي تعاني وتمر بأزمة اقتصادية على رغم التظاهر بأن كل شيء على ما يرام.

وتقابل المصلحة الوطنية والاقتصادية الإيرانية مصلحة غربية، وأميركية بالذات، تقضي بالانفتاح على إيران واستعادة أسواقها والدخول في مشاريع التنقيب وإنتاج النفط وغيرها، إضافة إلى السلع الأخرى التي يتعطش الإيرانيون للحصول عليها.

وهكذا تبدو بوادر الانفتاح جلية تمهيداً لاتخاذ خطوات تؤدي إلى طريق المصالحة والمساكنة بعد سنوات من الصراع والتأزم، وهي خطوة لا يمكن التقليل من أهميتها ولا من نسيان كون الإيرانيين يصفون الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر فيما يصف الأميركيون إيران ومن يقف في صفها بمحور الشر.

وإذا كان الغرب مهتماً بمصالحه، ومركزاً على الملف النووي الإيراني إرضاء لإسرائيل ودرءاً لشرورها، فإن العرب يركزون أكثر على قضاياهم ويطرحون تساؤلات عن دور المصالحة في وقف نريف الحرب السورية وإيجاد حل سلمي لها وإيجاد حلول للأزمة اللبنانية المتنامية وتحريك الأوضاع بعد الشلل الذي أصاب كل مرافق لبنان ومؤسساته. كما يتساءلون عن أهمية هذه المصالحة في منع انفجار الفتنة السنّية-الشيعية وتبريدها تمهيداً لنزع كل صواعقها ووأد أخطارها.

وفي مكان آخر تهتم دول الخليج بانعكاسات المصالحة والانفتاح ودورها في وقف التحركات المستمرة للمعارضة في البحرين والمساهمة في حل الأزمة.

يبقى السؤال الملح في الخليج والمنطقة كلها عن احتمالات المصالحة السعودية- الإيرانية وانعكاساتها على مجمل الأزمات والقضايا، والجواب واضح في أن الطرفين أبديا حسن نية في تنفيذ هذه الخطوة التاريخية المهمة التي ستتوج بلقاء القمة المنتظر بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس الإيراني.

والغريب أن الإعلام الغربي، وبعض الإعلام العربي يتحدث ويكرر الحديث عن امتعاض خليجي وسعودي من المصالحة الأميركية- الإيرانية لأن الوقائع التاريخية تثبت أن السعودية كانت سباقة لمد يد الأخوة لإيران، كما كان خادم الحرمين أول من هنأ الرئيس روحاني وعبّر عن الأمل بالتعاون والتقارب خدمة للأمتين العربية والإسلامية. كما علينا ألا ننسى أن الملك عبدالله كان قد بادر إلى إعادة دعم العلاقات والانفتاح على إيران مرات عدة، وحقق ذلك مع الرئيسين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وأقام معهما علاقات صداقة وود واحترام متبادل منذ كان ولياً للعهد، بل وانفتح أيضاً على الرئيس نجاد وقام ببادرة حسن نية تجاهه بدعوته لأداء فريضة الحج وسار معه وهو ممسك بيده في مشهد رآه العالم كله.

كما علينا ألا ننسى أن التفجيرات التي وقعت في مجمع سكني ذهب ضحيته عشرات الأميركيين من مدنيين وعسكريين اتهمت فيها جهات إيرانية وتم اعتقال بعض المنفذين والمحرضين، لكن السعودية رفضت إعلان الاتهام أو تسليم المتهمين على رغم الضغوط الأميركية الهائلة ولم توجه الاتهام علناً، بل اكتفت بتحذير إيران من خطورة تكرار هذا الفعل وحصلت على تعهد جازم بهذا المعنى، وهذا ما حصل وتم - بالحكمة والتعقل ومن موقع القوة - منع مواجهة عسكرية لا تحمد عقباها.

وهنا نصل إلى التوقعات وأولها بدء مفاوضات على محورين أولهما سري تحت الطاولة والثاني علني يتعلق بالملف النووي الإيراني ضمن سلسلة من الخطوات والنوايا الحسنة بدأت تباشيرها بزيارة جيفري فيلتمان إلى طهران ثم بلقاءات نيويورك وبعدها بتدشين بريطانيا خطوات استئناف العلاقات الديبلوماسية الطبيعية وإعادة فتح السفارات.

وجوهر المفاوضات يقوم على الشأن النووي على أمل أن يجرى التوصل إلى اتفاق حل وسط يرضي الجميع: الغرب يعترف بإيران دولة نووية، لها حق تخصيب اليورانيوم ضمن شروط تقبل بها إيران، وهي التعهد بعدم القيام بأي نشاط عسكري أو الوصول إلى إنتاج سلاح نووي وفق اتفاق ملزم يسمح للمفتشين بالمراقبة والمتابعة.

أما التفاصيل والهوامش، فتتعلق بنقاط خلاف كثيرة من بينها إنهاء الحصار ورفع التجميد عن الأرصدة الإيرانية والاعتراف بدورها الإقليمي والكف عن التدخل في شؤون دول الخليج والمنطقة والمساهمة في حل الأزمات القائمة وبصورة خاصة في سورية ولبنان.

هذا ما هو مطروح في السر والعلن، ولكن المخاوف من الفشل أو laquo;التفشيلraquo; كبيرة كما أن الشكوك بنجاح روحاني أكبر... وما انتقادات خامنئي لبعض تصرفات الرئيس في نيويورك إلا مقدمة لحفظ خط الرجعة وإقفال الطريق أمام أي تنازل مقبل، مع الأخذ في الاعتبار توجيه رسالة للغرب بأن الانفتاح ليس بهذه السهولة وأن دونه الكثير من الشروط والمصاعب، ما يستدعي تنازلات من طرفه قبل تنازلات إيران.

كما أن امتعاض قادة الحرس الثوري من ممارسات روحاني وتصريحاته التي دعتهم صراحة إلى وقف تدخلهم في السياسة يشكل مبرراً إضافياً للشك بالنجاح ويدفع إلى توقع تحركات وممارسات ومواقف تزرع الألغام في طريقه.

والعائق الأكبر الآخر هو إسرائيل التي سعت وستسعى بكل ما تملكه من جهود ومؤامرات ومناورات لإفشال أي حل ومنع أي تقارب وهو ما حاوله بنيامين نتانياهو في واشنطن وما سيفعله هو وعصابته لنسف المصالحة في مهدها ولو من طريق عمل عسكري.

وهذا كله يدعو إلى الحذر وعدم المضي في التفاؤل كثيراً بأن الأمور ستجري بيسر وسهولة. فالملف النووي معقد، وعلينا ألا ننسى حقيقة في شأنه وهي أن بناء المفاعل النووي الأول تم في عهد الشاه الراحل، وأن البناء الجديد للمفاعل تم في عهد الرئيسين المعتدلين رفسنجاني وخاتمي، واستكمل في عهد نجاد، ما يدفعنا إلى الجزم بأن السياسة النووية الإيرانية هي استراتيجية دولة لن تمحى بجرة قلم ولا بخطوات انفتاح. ولا أعتقد أن الرئيس روحاني قادر أو راغب في وقفها أو تغيير مسارها، بل على العكس هناك من يشكك بأن انتخابه ومن ثم انفتاحه هما مجرد سيناريو مرسوم لإنهاء عزلة إيران ورفع الحصار وفتح الأسواق وإنعاش الاقتصاد وكسب الوقت لوضع العالم كله تحت أمر واقع لا مفر منه، وهو تحول إيران إلى دولة نووية حربية وليست سلمية فقط.

كل هذه التوقعات والشكوك مربوطة بجهاز توقيت وضعه روحاني نفسه، وهو أمر إيجابي، حيث حدد مهلة زمنية تمتد من 3 أشهر إلى 6 أشهر لتحقيق تقدم على كل الجبهات... ومن بعدها لكل حادث حديث، وما علينا إلا الانتظار قليلاً لتحديد المسار ومعرفة المصير.