عبدالله بن بجاد العتيبي

منذ سنوات عديدة مضت والمشهد الثقافي العربي يشهد ارتحالاً في مراكز التأثير يصب في صالح دول الخليج العربي من حيث تطوير التعليم العام والعالي وكذلك مشاريع الابتعاث الضخمة واستقطاب الجامعات العالمية لفتح فروع لها أو إنشاء جامعات بمواصفات عالمية وكذلك من حيث الجوائز الثقافية المهمة، وقل مثل ذلك في مشاريع الترجمة إنْ كجوائز وإنْ كمؤسسات معنية بالترجمة وأيضاً دور النشر العربية التي بدأت دورٌ خليجيةٌ مهمةٌ في منافسة المراكز العربية التقليدية للنشر.

تقف معارض الكتب وحجم المشاركة فيها وحجم مبيعاتها شاهداً في هذا السياق، ومعه الحراك الثقافي الذي يتزايد ويتصاعد والذي ليس مقصوداً به المؤسسات الثقافية كالأندية الأدبية، بل مجمل الحراك الثقافي وطبيعة الجدل الذي يثار في الصالونات الكبيرة وفي المجالس العادية، كل ذلك لم يزل يحدثنا عن أهمية متصاعدة لدول الخليج على المستوى الثقافي.

نعم، ينقص دول الخليج كثيرٌ لتثبّت أقدامها على هذا الطريق، وتستمر في الصعود والترقي، ويلزمها أن تضع أمام ناظريها أن تنافس دول العالم المتقدم حتى تظفر بفرصة الاستمرار والتطوير، فكلما انتعشت الثقافة وانتشر الوعي بين الشعوب كانت مهيأة أكثر لأطوار حضارية أرقى، ومن الخطأ وضع عربة تطوير الآليات الإجرائية في الشأن السياسي أمام حصان الثقافة والفكر والوعي، وهو ما جرى للأسف بعد 2011 فيما كان يعرف حينها بـlaquo;الربيع العربيraquo;.

مرّ العرب عبر تاريخهم بحركات احتجاج جماعية تمّت تسميتها من قبل بعض المستشرقين أو بعض المؤرخين العرب في العصر الحديث بالثورات، ولكنها في لحظتها التاريخية كانت تحمل مسميات أخرى كالفتنة والخروج، ومنها ثورة القراء التي كان يقودها ابن الأشعث ضد الحجاج بن يوسف، وكذلك ثورات الخوارج المتعددة، وما دولة بني العباس في الأصل إلا ثورة دينية سرية كانت تتمّ البيعة فيه لـ laquo;الرضا من آل محمدraquo; والأمر نفسه في ثورة النفس الزكية ضد بني العباس وغيرها كثير وصولاً لعصرنا الراهن.

إن الاحتجاجات الكبرى التي حدثت في جمهوريات laquo;الربيع العربيraquo; المزعوم هي أكثر ارتباطاً بهذا التاريخ من الارتباط بتاريخ فرنسا وثورتها التي تنتمي لسياق حضاري شديد الاختلاف والتباين عن سياقنا الحضاري وواقعنا المرير، لقد كان ثمة محاولات جديرة بالاستحضار لتطوير البلدان العربية من مثل محاولات محمد علي باشا لتطوير مصر عسكرياً وإدارياً، ورافقتها محاولات لتطوير المؤسسة الدينية ممثلة بالأزهر، وقد رافقها ولحقها محاولات للتطوير الثقافي قام بها أمثال رفاعة الطهطاوي، وقد بلغت تلك المحاولات أشدها في عصر الخديوي إسماعيل الذي سعى لتطوير البنية السياسية والثقافية في بلاده ورافقها تطورات ثقافية قادها مثقفو ذلك العصر.

لقد أولع بعض المثقفين العرب بالثورة الفرنسية في حينها، ثم أمّلوا تكرارها في سياق حضاري يختلف تماماً، فرأى بعضهم في الانقلاب على السلطان عبدالحميد ما يشبه الثورة الفرنسية واستهوت بعضهم فكرة، بل حلم نقل التجربة بالكامل للدول العربية ما بعد الاحتلال العثماني، ولكنهم صدموا بأنّ الاستعمار كان هو البديل الواقعي عوضاً عن الأحلام والأوهام، وبعد تجارب متعثرة رجع كثيرٌ من المثقفين العرب إلى الاقتناع بأن تطوير الأفراد والمجتمعات عبر نشر التربية والثقافة والوعي هو الأمر الواقعي الجدير بالعناية والرعاية، وهي التجربة التي كان أحد روّادها الإمام محمد عبده في مرحلته الأخيرة بعدما تخلّى عن طريقة أستاذه جمال الدين الأفغاني، وهو الذي قال كلمته المشهورة laquo;لعن الله ساس ويسوس وسياسةraquo;.

سار المثقفون العرب المعاصرون بل غالبهم- للدقة- على نفس منوال الأوائل بعد احتجاجات واضطرابات 2011 فقد عاد الوهم ليسيطر على كثيرين بأننا أمام لحظة تاريخية تشبه كثيراً لحظة الثورة الفرنسية، ونظّروا لذلك واجتهدوا، ولكنّ الواقع عاد هذه المرة ليصدمهم بأن الأصوليين هم سادة المشهد الجدد، وهم قادته وازدادت صدمتهم حين رأوا أن هؤلاء الأصوليين ممثلين في جماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; وأمثالها وأتباعها يسعون بجد واجتهاد للاستحواذ على الدولة وكامل المشهد العام وإقصاء المخالفين في بلدان الاحتجاجات.

وبغض النظر عن التقويم السياسي لما حدث في 30 يونيو بمصر من تدخل الجيش لإنقاذ البلاد من براثن الإسلام السياسي الذي أراد اختطافها وهو عملٌ جليلٌ دون شكٍ، ولكن المثقفين الحالمين بالشبه الفرنسي وجدوا أنفسهم أبعد ما يكونون عن النموذج الفرنسي، فالجيش والعسكر هم الذين أنقذوا البلاد، فوضعوا أنفسهم بين نارين، ولم يجدوا بعد التكييف الملائم لأفكارهم إلا من تشجع وقدّم مراجعةً علنيةً لمواقفه السابقة بدلاً من خداع متابعيه والمقتنعين بفكره وهؤلاء قلة على أي حالٍ.

عوداً على بدءٍ، وحتى لا يأخذنا الحديث في شجونه، فإن دول الخليج العربية قد زادت وطوّرت الأدوار الثقافية التي كانت من قبل قد عززتها ونجحت فيها مقارنة ببقية البلدان العربية، وأمرٌ آخر طرأ على المشهد، وهو أنّ دول الخليج باتت تضطلع بأدوار سياسية إقليمية يشهد بها الجميع.

ففي سوريا، قادت دول الخليج الموقف العربي والدولي تجاه تأييد الشعب السوري ورفض نظام الأسد الذي جاوز كل الحدود، ولم تزل تعزز هذا الموقف على الرغم من التخاذل الدولي، ولكنّ صوتها بات مسموعاً وبقوةٍ، ومن قبل ومن بعد يزداد هذا الدور السياسي ويتصاعد، من قبل كما جرى في اليمن حيث قادت دول الخليج حلاً سياسياً يضمن رحيل علي عبدالله صالح واجتراح حل جديد يختلف عن نماذج 2011 في تونس ومصر حيث كان الجيش هو الحكم الفصل، وفي ليبيا حيث كان حلف laquo;الناتوraquo; هو الحكم الفصل، ومن بعد في مصر بعد 30 يونيو، حيث دعمت دول الخليج باستثناء واحدة هي قطر عودة الدولة المصرية للشعب المصري وبكل قوة ووقفت في وجه أية إجراءاتٍ دولية كانت الدول الغربية الكبرى تسعى لاتخاذها وأجبرتها على التراجع.

هذه المواقف السياسية المبادرة والمستمرة من قبل دول الخليج تثبت للجميع أن هذه الدول، وإنْ تخاذل حلفاؤها عن مصالحها وأمنها الاستراتيجي قادرةٌ بنفسها على فرض نفسها كلاعبٍ إقليمي ودولي مهم ومؤثر، تدعمها في ذلك قوة اقتصادية مؤثرة على مستوى العالم في لحظة تعيش فيها كثير من دول العالم في أزماتٍ اقتصادية كبرى. أخيراً، إن الدور الثقافي المتصاعد ومعه الدور الإعلامي الإخباري والترفيهي والرياضي وغيرها تصب في مصلحة الدور السياسي.