مالك التريكي

بعيد الثورة الشعبية مطلع 2011 لم نكن نتورع عن الحلم البالغ في جموحه حد الضلال. لم نكن على علم إلا بقدر ضئيل من أمراضنا الاجتماعية التي سرعان ما تكشّف لنا أنها أمراض كثيرة وخطيرة. كان معظم التوانسة آنذاك آخذين لاشعوريا بمقولة سانت بوف التي صدّر بها محمود المسعدي كتاب lsquo;السدrsquo;: ليس الشعر في أن تقول كل شيء بل في أن تحلم النفس بكل شيء.
انخرطت مثل الجميع في ضلالات الحلم الفاتنة حينها لاقتناعي بمشروعيته في مبتدأ لحظة تاريخية مفتوحة على احتمالات الإرادة.إلا أني كنت أنغص على نفسي وعلى بعض الأصدقاء حلمي وحلمهم عندما أحاول التذكير بأن أقصى ما يمكن أن تبلغه بلادنا في المدى المنظور (العقود الثلاثة القادمة) ndash; لو سارت كل الأمور على ما يرام، ولو صدقت عزائم الجميع ونجحنا في ابتداع توليفة تعاون، أو مجرد تعايش، بين الإسلاميين وسواهم، وثبتنا على مبدأ ديمقراطية الحريات (الديمقراطية الليبرالية) أيا كانت نتائج ديمقراطية الانتخابات، الخ ndash; لو نجحنا في كل هذا دون نقصان، فإن أقصى ما ستتمكن تونس من بلوغه من التقدم، في أفضل الأحوال، هو درجة شبيهة بوضع اليونان أو البرتغال أو جنوب إيطاليا.
لماذا؟ أولا، لأن الديمقراطية لا تكفي للقضاء على التخلف. وثانيا، وهذا هو الأهم، لأن خصائص المجتمع ndash; في علاقته بالفرد عامة وبالمرأة خاصة، وفي علاقته بقيم العلم، والعمل، والثقة والتكافل (أو التنافس)، وفي علاقته بالسلطة عامة ومؤسسات الدولة خاصة ndash; هي أقوى العوامل التي تحدد مدى القدرة الوطنية على التقدم. أي أن الثقافة الاجتماعية هي الغالبة على أمر الأمم. فشتان بين أمة نشأت في حضن أخلاقية العمل حتى صار الجد والكد عندها جبلّة وطبعا وبين أمة تحتال على العمل احتيالا.
وشتان بين من نشأ على التربية المدنية (ما يسمى في متداولنا اللغوي غير الدقيق lsquo;تحضراrsquo;) باعتبارها التعبير السلوكي اليومي عن الوطنية وبين من تقتصر نظافته على بيته ويعامل بلاده على أنها دار حرب ومرافقها العمومية على أنها مغانم. ولا يستوي من
نشأ على الاضطلاع بالواجب وعلى احترام الدولة، باعتبارها المثال الإجماعي لمادة الوطن وجدليته، وبين من يتهرب من دفع الضرائب ويعدّ الرشوة مجرد شكل من أشكال تسهيل الأعمال.
مسائل حاسمة أمضى السياسي الفرنسي الراحل ألان بيرفيت كامل عمره تقريبا في بحثها بسبب افتتانه بالسؤال المحير: لماذا تتقدم أمم وتتأخر أخرى؟ وهو السؤال ذاته الذي سبق أن طرحه الأمير شكيب أرسلان في سياق آخر: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
ولا يستدعي الأمر عناء الرجوع الى ماكس فيبر. فالقضية واضحة:درجات التقدم تختلف.ليس بين البلدان (ألمانيا واليونان مثلا) فحسب، بل وداخل البلد الواحد بين منطقة وأخرى (سويسرا الألمانية وسويسرا الفرنسية مثلا، أو شمال إيطاليا وجنوبها).
بل المعروف في تونس أن أهالي منطقة صفاقس، مثلا، هم أحذق أبناء البلاد في مناشط الاقتصاد، حتى أن لوموند نشرت قبل حوالي ربع قرن تحقيقا بعنوان lsquo;الصفاقسية:
يابانيو تونس!rsquo;.
الآن، هل ما زالت حكاية اليونان أو البرتغال في المتناول حتى في أفضل الأحوال وحتى بعد أجيال؟
للحديث بقية.