عبدالله بن بجاد العتيبي


قراءة المستقبل ومحاولات استشرافه أو استشراف أجزاء مهمةٍ منه مهمة صعبة ولكنها جليلة، عسيرةٌ ولكنها نافعة، وقراءة المستقبل ليست تخرصاً بالأماني ولا رجماً بالغيب فتلك معينها الأوهام وهذه منبعها الخرافات.

يساعد على قراءة المستقبل في موضوعٍ ما عمق المعرفة وتشعب الثقافة وسعة الاطلاع وتراكم الخبرة والتجربة وبالذات حين يكون الموضوع محدداً والقارئ متخصصاً، ما يدفع للإتقان ويمنع من التشتت.

يجري الجدل بمصر منذ 30 يونيو عن مصير جماعات الإسلام السياسي هناك، أي قراراتٍ ستختار لنفسها؟ وأي طريقٍ ستسلك؟ وما هي خياراتها بعد إسقاطها من رأس السلطة السياسية؟ وما سيصنع أتباعها وحلفاؤها في الخارج؟ من ضمن أسئلة كثيرةٍ يمتلئ بها المجتمع ويطرحها الأفراد وتسعى لاكتشافها النخب السياسية والثقافية على حدٍ سواء.

وبعد أربعة أشهر -وكما تمّت الإشارة من قبل- فإن تلك الجماعات وعلى رأسها جماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; ستتجه لأكثر من توجّهٍ، وستفترق وتتشعب الخيارات كما يحدث بعد أي ضربةٍ كبرى تحيق بحزبٍ أو جماعة أو تيارٍ، وجماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; ليست بدعاً من ذلك فهي ستفترق لعدة توجهات، ومع الإقرار بخطر الإسلام السياسي عموماً وكيفما تشكل فإن من أهم تلك التوجهات ثلاثة هي:

أولاً: الحرس القديم. وهم قيادات الجماعة قبل العزل، تلاميذ سيد قطب المخلصون لأيديولوجيته الصارمة وعقيدته التكفيرية والذين دخل بعضهم السجن معه من أمثال المرشد العام محمد بديع ونائبه محمود عزّت ومن سار على منوالهم كالنائب الآخر خيرت الشاطر، وغيرهم كثير، وهؤلاء قد اختاروا بأنفسهم إدخال الجماعة وأنصارها وأتباعها في محرقة سياسية وتاريخية، وكانوا لجماعتهم وعناصرهم كما كانت براقش في التراث العربي laquo;وعلى نفسها براقش تجنيraquo; فهم اختاروا الجناية على الأتباع والعناصر والتيار وذلك بعد الجناية على الدولة والدين وعلى الشعوب العربية والإسلامية والفرقاء الفكريين والسياسيين، وهؤلاء انتهى بهم الأمر إلى السجون والمعتقلات.

ثانياً: العناصر المسلحة أيديولوجياً بالتعصب والتطرف، وعملياً بالتدريب على القتال وحمل السلاح، وهؤلاء هم الورثة الطبيعيون لـlaquo;النظام الخاصraquo; أو التنظيم السرّي الذي تنتمي إليه أغلب قيادات الجماعة أو الحرس القديم المذكور أعلاه، وهذه العناصر المسلحة بنت علاقاتٍ وطيدةٍ ومشتركة بجماعات العنف الديني في السبعينيات بمصر والتي أدت لاغتيال الرئيس الراحل أنور السادات ومن ثم انتقلت في الثمانينيات لأفغانستان لأغراض التدريب على القتال والحرب وحمل السلاح من أجل العودة لبلدانهم كما صرّح بذلك الإخواني العتيد عبدالله عزّام، ثم تغاضوا وساوموا في التسعينيات الدولة على أنهم سيكونون البديل الديني لجماعات العنف الديني التي خرجت من عباءتهم كما ساوموا بعد ذلك في العقد الأول من الألفية الجديدة الدول الغربية بأنهم سيكونون الخلاص من تنظيمات laquo;القاعدةraquo; المتعددة.

هذه العناصر تمّ أعداد جيلٍ جديدٍ منها بعد أحداث 2011 وتمّ تعزيزه أثناء حكم laquo;الإخوانraquo; للبلاد في عامٍ كاملٍ، أما التجهيز النهائي لهذا الجيل الجديد فكان بعد 30 يونيو في ميادين رابعة العدوية والنهضة وغيرها. وهؤلاء هم الذين يقودون عمليات التفجير والتخريب وقتل المسيحيين وإحراق الكنائس وتدبير الاغتيالات وقتل الشرطة والجيش والناس في سيناء وبرّ مصر بأكمله.

إن حجم التحريض والتحشيد وصناعة الغضب وlaquo;مدارس السخطraquo; -كما هي تسمية سيد قطب- الذي كان يطلق بشكلٍ منهجي من منصات رابعة التي كانت مدعومة بكل قوةٍ من قنواتٍ إعلامية تنتمي للإسلام السياسي كانت بالعشرات بعد 25 يناير ومدعومة أكثر من قنواتٍ إخبارية عربية على رأسها قنوات laquo;الجزيرةraquo; الإخبارية، ومتفشية في مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكن تسميتها بـlaquo;السلطة التافهةraquo;، كان لابدّ أن يؤدي ذلك التحريض والسخط إلى العنف والإرهاب الفعلي. وهذه الفئة سيتمّ القضاء عليها وإنهاء كافة أفعالها ومخلفاتها في فترةٍ لن تكون طويلة وبخاصة مع استحضار بشاعتها واستنكار غالبية الشعب المصري لها وتحالف العامة ضدها.

ثالثاً: جيل ما بعد الجماعة، أو ما بعد التنظيم القديم، وهو جيلٌ كان يتململ داخل الجماعة وقد أخرج بعض إفرازاته من قبل مثل عبدالمنعم أبو الفتوح وأبو العلا ماضي ونحوهم، ولكنّ هذا الجيل سيكون بحكم الواقع والتجربة والتاريخ جيلاً أكثر انعتاقاً من هياكل الجماعة القديمة المهترئة والمسيطر عليها من الحرس القديم، وسيكون أكثر انفتاحاً وتسامحاً في خطابه الديني كما في تحركاته السياسية، وقد ينتج حزباً سياسياً جديداً، وسيدخل في تحالفاتٍ واسعةٍ ويتسم ببراجماتية عاليةٍ وسيسعى للتأقلم مع الأوضاع الجديدة في مصر ومع كل ما ستنتجه من شكلٍ وموازناتٍ للدولة المصرية الجديدة.

هذا الجيل هو من سيربك كثيراً من السياسيين والمثقفين وبخاصةٍ بعدما تستقر الدولة ويعتمد الدستور وتقوم المؤسسات، وهو من سيكون عليه التعامل مع ما أسميته سابقاً laquo;الدولة ما بعد الأصوليةraquo; التي يتمّ السعي لبنائها في مصر.

وهنا تثور أسئلة جديدةٌ، هل سيكون هذا الجيل جيلاً مدنياً ذا صبغةٍ دينيةٍ ما كما هي الأحزاب المسيحية في أوروبا؟ وهل سيتخلّى عن الأيديولوجية السياسية لجماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; وللإسلام السياسي عموماً كتلك التي تخلّقت في عقل رجل كجمال الدين الأفغاني لم يعرف وطناً بل ترحالاً ولا دولة حديثة بل خلافة، وهي التي لا يعرف لها التراث الإسلامي مثيلاً؟ وما هي العوائق التي قد تقف أمامه؟

أما السؤال الأول فإنه يستحيل أن يكون جيلاً مدنياً ذا صبغةٍ دينية كما في أوروبا وذلك أن مصر ليست أوروبا في سياقها الحضاري والثقافي والفلسفي، ومهما توهم المولعون بتشبيه ما جرى في مصر بثورة فرنسا فهم سيكونون مخطئين مرةّ بعد مرةٍ.

أما السؤال الثاني، فإن خطاباً وأيديولوجية بهذا التماسك والصرامة والتاريخ لن تخرج من قلوب من تربوا عليها، وهم وإن أعادوا ترتيب خطابهم وتأقلموا مع الأوضاع الجديدة ستظل قابعة في أحلامهم وأمانيهم، ومع عدم الانسياق خلف خديعة النماذج فإنهم سيصنعون مثالاً فيه شبه ما وبدون تطابقٍ مع النموذج التركي.

أما السؤال الثالث، فإن العوائق ستكون متعددة، منها أنّ حجم الرفض الشعبي الكبير المستاء من تجربتهم في الحكم والذي جرى بمصر وينمو شبيهه في تونس ويقاربه ما يجري في ليبيا لن يكون من السهل عليهم تجاوزه وإلغاؤه، ومنها أن فرعي الجماعة السابقين أي الحرس القديم والعناصر المسلحة مع كل أتباعهم وممثليهم في مناطق الانتشار الإخواني والدول الداعمة والقنوات المحرضة سيكونون لهم بالمرصاد، على طريقة حرب الأشقاء.