يوسف الديني

باستثناء فترات تصحيحية عابرة احتدم الصراع فيها بين laquo;الإسلام السياسيraquo; ممثلا في جماعة الإخوان التي خرجت من المشهد السياسي وتفاوض الآن على العودة إليه بشروطها، بدا المشهد معزولا عن laquo;داخلraquo; البلدان التي مستها رياح الربيع العربي إلى الاهتمام بمعارك إعادة تأسيس laquo;هوياتraquo; سياسية وصراع مع الخارج.

تحاول الحكومة المصرية جاهدة إعادة تعريف نفسها في الغرب كضابط إيقاع لإرادة الشارع المصري مسنودة بالجيش الذي يعيش أكثر لحظاته حيوية بسبب الدعم الشعبي، وإن لم يستثمر ذلك حتى الآن في الداخل قدر أنه حريص على laquo;الخارجraquo;، وهو نفس الشيء الذي يفعله إسلاميو تونس الذين يعتلون السلطة والحكومات الليبية واليمنية التي تعاني من أزمة استقرار داخلية حادة لكنها مهجوسة بإبقاء شرعيتها ولو في إطارها الأدنى أمام الخارج.

بالطبع الخارج هذا يشمل دول الجوار والدول الغربية والمنظمات الدولية، وبحسب هذه التوازنات الإقليمية والدولية يحارب وارثو الفوضى للبحث عن استقرارهم عبر الخارج.

لكن ماذا عن الداخل الذي يغفله الجميع: دول الجوار والغرب والمنظمات الدولية؟

الحال أن هذا الإغفال لم يشمل جماعات التطرف والإرهاب التي تعيش الآن فترة إعادة ترميم لحضورها في الداخل والانفصال التدريجي عن الجسد الرئيس، وهو laquo;القاعدةraquo; السيئة الذكر، وبناء هوية قوامها العلاقات الاجتماعية في الداخل عطفا على تراجع صورة وحضور الإسلام السياسي ممثلا في laquo;الإخوانraquo; وانشغال laquo;السلفية السياسيةraquo; الجديدة بما تبقى من كعكة السياسة، مطمئنة على حضورها الاجتماعي، ومعتبرة أن تضخم دور الأجيال الجديدة من المتطرفين لا يشكل تهديدا أو منافسة لها، بل لربما ساهمت في تلميع صورتها على أنها رافد للاعتدال الذي يمكن أن يواجه ذلك التطرف.

لكن الأمور لا تسير وفق رغبة السياسي دائما، فالمتابع للحضور اللافت لجماعات جديدة التشكل محلية الصنع اجتماعية النمط يدرك أن القادم أسوأ خلال السنوات العشر المقبلة، وهي التجربة الكافية عادة لإفراز جيل جديد من التطرف المعدل الجينات ليصبح أكثر مرونة من التخلص من العبء التاريخي لـlaquo;القاعدةraquo; وسمعتها إلى طرح نفسه كخيار محلي قوي يحظى بالحضور والنفوذ الذي طبخ على مهل في ظل هذه الغفلة العامة للفاعلين على الأرض بسبب الانهماك في إرضاء الخارج.

أنصار الشريعة في مصر، الجماعات الجهادية المحلية في الصومال، والجماعات المسلحة ذات البعد الجهوي المناطقي في جنوب اليمن، التكتلات المسلحة التي ساهمت في الثورة في ليبيا وانفصلت عنها بعد تشكل الحكومة لتصنع لها وجودا محليا غير معترف به سياسيا، لكنه أكثر قوة وحضورا في المجتمع من أي جماعة سياسية أخرى.. كل هذه المؤشرات تؤكد أننا بإزاء مشهد للتطرف جديد تماما ومعزول عن التأثيرات الخارجية، وهو ما يجعله أكثر خطورة.

التنظيم الجهادي المصري الجديد الذي أطلق على نفسه laquo;السلفية الجهادية المصريةraquo; يؤكد في كل بياناته أن المرحلة الآن هي مرحلة إعداد، وبحسب رؤيته يجب على المسلمين في المرحلة المقبلة الانخراط في laquo;التدريب العسكري استعدادا للمواجهة المحتملة المقبلةraquo;.

والحال أن رهان الحكومات laquo;الربيعيةraquo; على الخارج خطأ استراتيجي كبير في ظل إهمال الداخل، وحتى الاعتماد على غياب منظمات إرهابية كـlaquo;القاعدةraquo; منظمة ومتطورة الشبكات والهيكلية أيضا خاسر، ذلك أن laquo;القاعدةraquo; في طورها المعولم كانت محصلة لخبرة وعمل ثلاثة عقود قبل الانتقال إلى التحالف العالمي واستهداف المصالح الغربية، وبإزاء بناء كوادر ومعسكرات في الأطراف والأقاليم والمناطق المهملة فإن الواقع الجديد الآن يتيح أيضا بناء شبكات واسعة افتراضية تجري إداراتها والتجنيد والتدريب فيها على الإنترنت، وأيضا بالاستفادة من وسائل التواصل وتشفير البيانات... إلخ

الجماعات المتطرفة يمكنها استغلال صراع الحكومات مع الإسلام السياسي الآن، والانشغال بتوضيح ذلك للغرب، بكسب الوقت لإعادة تجنيد كوادر جديدة متحولة من الإسلام السياسي بسبب رغبتها في الانتقام، وأيضا اعتمادا على موقفها من تدخل الجيش في مصر، أو تردي الأوضاع في البلدان الأخرى، أو حتى فشل العملية السياسية في تونس مثلا. ومن هنا يصبح بقاء الأوضاع من دون الالتفات إلى الداخل وإيجاد توليفة صيغة حل سياسي جديدة تعتمد على استقطاب كل الأطراف المؤثرة والبحث عن تشكلات إسلامية معتدلة جديدة استفادت من أخطاء رفاق الأمس؛ يعني إعطاء فرصة أكبر لنمو خطابات الظل، وعلى رأسها خطاب التطرف المستفيد الأكبر من تردي الأوضاع وإهمال الإصلاحات الاقتصادية وملفات الداخل بما تحمله من تحديات هائلة.