يوسف عبدا لله مكي


موازين القوى الدولية تبدلت سريعا، quot;أوباماquot; حدد ساعة الصفر لضرب سورية، وقبل يوم واحد فقط من التنفيذ، وفقا للتسريبات الأخيرة، هدد الرئيس الروسي بالتدخل في الحرب، فتراجع أوباما فورا

المؤسسات الدولية، هي من صنع المنتصرين. يصدق ذلك على أهم مؤسستين أمميتين في العصر الحديث، عصبة الأمم، والأمم المتحدة، الأولى كانت تعبيرا عن هزيمة المحور الذي ضم ألمانيا والنمسا والمجر، واستخدم فيها لأول مرة في التاريخ، الأسلحة الكيماوية، والقصف من الجو في التاريخ.
والحروب عادة ما تبدأ بأهداف محددة، سرعان ما يسدل الستار عليها. وخلالها أيضا تتحرك الرمال بسرعة، وتتغير خارطة التحالفات. فلم يدر بخلد من أشعلوا هذه الحرب، أن تكون السبب المباشر، لاندلاع الثورة البلشفية في روسيا، ولم يدر بخلد السلطنة العثمانية، أن التحاقها بهذه الحرب لصالح المحور، سيكون السبب في سقوط السلطنة، وانسلاخ الأقطار العربية الخاضعة لسيطرتها عنها.
عبدت نتائج الحرب العالمية الأولى الطريق، لبروز العالم الجديد، ومهدت الطريق لحرب أخرى، انتهت بسيادة الثنائية القطبية على عرش الهيمنة الدولية. وحرضت تركتها على إشعال الشعور القومي المتطرف بألمانيا النازية. وكان من نتائجها تداعي قوة الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية. فقد أصبحت أميركا وروسيا منذ نهاية تلك الحرب، دولتين عظيمتين يحسب حسابهما في صناعة القرارات الدولية.
فرغم أنه جرى تقاسم تركة السلطنة العثمانية، بين الفرنسيين والبريطانيين، وفقا لاتفاقية سايكس بيكو؛ لكن القسمة لم تعكس قوة هاتين الإمبراطوريتين على أرض الواقع. فقد بدأ مشروع الإزاحة الأميركي لهاتين الإمبراطوريتين بشكل تدريجي منذ ذلك التاريخ. وكانت المحطة الأولى في هذا المشروع، هي إعلان الرئيس الأميركي ودرو ويلسون، مبادئه الأربعة عشر، التي أقرت بحق تقرير المصير للشعوب المستعمرة. ومعنى ذلك أن قسمة سايكس ndash; بيكو ليست متسقة مع التطور التاريخي. جرى تحايل على القسمة، فبدلا من القول بالاحتلال والاستعمار، جرى توصيف احتلال العراق وسورية والأردن وفلسطين ولبنان، بتعبيرات دخلت القاموس السياسي لأول مرة، هي الحماية والوصاية والانتداب، وجميعها تحمل معنى واحدا، هو الاحتلال.
كان الأميركيون والروس، ينتظرون حدثا آخر للانقضاض على الإمبراطوريات القديمة، وأخذ مكانها. وجاءت الحرب الكونية لتحقق هذا الهدف، لقد تأكد للقاصي والداني، من خلال نمو حركات التحرر الوطني، في بلدان العالم الثالث، أن قوة بريطانيا وفرنسا إلى أفول، وأن الستار سيسدل نهائيا على تعبير الإمبراطوريات التي لا تغيب عنها الشمس.
برزت الأمم المتحدة، بعد انتصار الحلفاء بالحرب العالمية الثانية، وصدر الميثاق، معبرا في نصوصه، عن مصالح المنتصرين. فالكبار quot;المنتصرونquot; وحدهم، هم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي، ووحدهم أيضا يملكون حق نقض قراراته، ولهم خمسة مقاعد من أصل خمسة عشر مقعدا. أما الآخرون، فإن عضويتهم المؤقتة في مجلس الأمن ليست مجدية إلا في حال امتناع الكبار عن استخدام حق النقض quot;الفيتوquot;. وكان مصدر عضوية بريطانيا وفرنسا في المجلس هو دخولهما الحرب ضد النازية، وبقاؤهما على رأس قائمة المتحالفين مع الولايات المتحدة الأميركية.
وإذا ما تم الإمعان في استخدامات النقض، التي صدرت منذ تأسيس الأمم المتحدة، حتى سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، سنجد أنها موزعة بين القطبين العظيمين، الأميركان والسوفييت. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، تفردت أميركا باستخدامه لأكثر من عقدين، دون منافس، لتؤكد أن القوة وحدها هي التي تسن وتفرض التشريعات والقوانين الدولية، وأن الأخلاق لا تنصرف في عالم السياسة.
الآن نحن أمام منعطف خطير، يشي بولادة نظام دولي جديد، كنتاج طبيعي للخلل في موازين القوى الدولية. ففي الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، أزمات اقتصادية يومية في المصارف والمصانع الكبرى، وأعداد العاطلين، والفاقدين للمأوى بالولايات المتحدة في ازدياد. يضاف إلى ذلك فشل كبير في استراتيجية محاربة الإرهاب، وسقوط مشاريع الاحتلال في أفغانستان والعراق.
على الجانب الآخر، صعود كاسح لروسيا والصين والهند، على كل الأصعدة. وطبيعي أن يلقي ذلك بظلال كثيفة على المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي. وأمام خصوم ما عرف بالربيع العربي فرص التذكير بفشله، في ليبيا وتونس واليمن، ودور ذلك في انهيار الكيانات الوطنية، وتعزيز دور quot;القاعدةquot;، التي تسرح وتمرح على طول الوطن العربي وعرضه، وفي عدد كبير من الدول الإسلامية.
موازين القوى الدولية تبدلت سريعا، وخير دليل على ذلك، أن الرئيس أوباما الذي وضع خطوطا حمراء، وأعطى الضوء الأخضر للاستعداد لضرب سورية، وحدد ساعة الصفر. وقبل يوم واحد، من التنفيذ فقط، وفقا للتسريبات الأخيرة، هدد الرئيس الروسي بوتين بالتدخل في الحرب، وتراجع أوباما فورا بعد التهديد. هكذا بطرفة عين، لم تعد الإدارة الأميركية حصانا رابحا. أصبح قيصر روسيا وحده، ومن خلفه منظومة البريكس، الحصان الرابح، لتتأكد النظرية القائلة بأنه ليس بعد العمران سوى الشيخوخة.
نحتاج في هذه المرحلة، أكثر مما مضى، لقياس خطواتنا. لقد تأكدت مقولة رئيس الوزراء البريطاني الشهير، ونستون تشرشل، ليس في السياسة صداقات دائمة. نقول ذلك مع وعي أهمية الانفتاح على الخارج، فحين يتعلق الأمر بالحفاظ على أمن بلادنا، فإنه ليس مسؤولية أحد، بل هو في المبتدأ والخبر مسؤوليتنا. وهي مسؤولية، عمادها تعزيز الوحدة الوطنية لتكون قادرة على مواجهة التحديات، وحماية الثغور من أطماع الطامعين وحقد الحاقدين.
فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، فالرأي المنطقي يقول بأن من حقنا أن نملك ما يملكون، ونتصرف كما يتصرفون. علينا أن نسارع بامتلاك القدرات النووية السلمية، أولا، فإن صعدوا إلى ما هو أعلى صعدنا، ولو تطلب الأمر امتلاك أحدث تكنولوجيا السلاح. ونحن في ذلك لا نبتدع سابقة، بل نعمل على حماية أنفسنا وتأمين سلامة بلادنا، وذلك حق كفلته لنا قوانين السماء والأرض. وإن جنحوا للسلم، وتوافق المجتمع الدولي على نزع أسلحة الدمار الشامل، من عموم المنطقة فنحن مع هذا الخيار، لكن حين يسود قانون الغابة فلا خيار لنا غير امتلاك أجهزة القوة. وصدق العلي القدير quot;وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...quot;