بكر عويضة

رغم كل ما يوجبه الموقف من صرامة في الجدية، بدا المشهد على جانب كبير من الكاريكاتيرية. ربما كانت لدى صاموئيل باركلي ويليام بيكيت بضع جينات عربية لم يكن العبقري الآيرلندي، مبدع مسرح العبث العالمي، يعلم عنها أي شيء. الواقع أن مشاهد الهزلية السوداوية على مسرح الحدث العربي (بلاك كوميدي) ومهازل الاستخفاف بعقول المعترين laquo;الغلابةraquo; المنتشرين بأعداد تقدر بالملايين ما بين ماء وماء، وما بينهما من صحارى وربوع خضراء، تكفي لأن تنهي عبث صمت صاموئيل بيكيت، فيبكي لو بعث حيا.. وينحني خجلا.

بعد غياب قسري عن مسرح الحدث المصري طال منذ مطلع يوليو (تموز) الماضي، أطل الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي فبدا نهار بدء محاكمته (الاثنين 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي) أبعد ما يكون عن الانهيار، بل في وضع صحي جيد، إذ وقف فور النزول من السيارة ثابت القدمين، وبدأ بتثبيت أزرار جاكيت البدلة، ثم مضى واثق الخطوة، بينما انتقلت الكاميرا تنقل من داخل القفص استعداد إخوته في قيادة الجماعة لاستقباله، وقد فاض الشوق بأحدهم فإذا به يقفز نحو الصف المقابل ينبه أخا آخر لقرب وصول المنتظر، وما إن مشى بينهم حتى دوت الأكف بالتصفيق، وقد تميز عنهم باللباس الإفرنجي في حين ألبسوا هم ما يشبه لباس معسكر غوانتانامو سيئ الصيت، إنما بالأبيض لا البرتقالي، ثم إنه واجه من خلف القضبان هيئة المحكمة فطعن في شرعيتها، وأصر على تثبيت أنه laquo;الرئيس الشرعيraquo; ولم يفته استغراب قبول القضاة الإقدام على محاكمته.

أما في القاعة فقد اختلط هرج المؤيدين بمرج المعارضين، وفي حين كبّر مناصرون وهللوا له، هتف ناقمون ضده، قيل منهم صحافيون، وطالب بعض منهم بإعدامه، أما القاضي فعبثا حاول أن يعيد للمحكمة الوقار المفقود، ثم سارع فأعلن التأجيل.

أعرف أن ما ذكرته في الفقرة أعلاه معروف وصار في حكم الخبر القديم، مع ذلك كان لا بد من التكرار توطئة للسؤال: ما هذا، يا سادة يا كرام؟ كيف تسود الفوضى داخل محكمة تنتمي لنظام القضاء المصري فإذا بها كما لو أنها حارة بحي العتبة أو وسط زحام سوق الموسكي؟ وكيف يجيز صحافيون لأنفسهم أن يتحولوا إلى laquo;هتيفةraquo;، ويتمادى بعضهم فيتقمص دور المدعي العام، ويطالب بالإعدام للواقف في قفص الاتهام؟ أليست مهمة الصحافي تنحصر بتغطية وقائع الحدث، أم صارت توفر للبعض فرصة للكشف عن أطماع سياسية؟ أين ذلك الخيط الرفيع بين العقل واللاعقل فيما جرى خلال تلك الجلسة، بصرف النظر عن شخص المدعى عليه وحق أو باطل ما يدعيه؟ وكذلك بصرف النظر عن خلل منطق المدعي أو وجاهة ادعائه؟

بالطبع، تأخر الآن الوقت كي يقال إن قرار محاكمة الدكتور محمد مرسي هو في حد ذاته إجراء تعوزه الحكمة. لن ترجع عقارب ساعة الحدث إلى الوراء، لكن من الواضح - في تقدير مراقبين كثر - أن الجماعة هي المستفيد من المحاكمة، ومن كل إجراء يدفع بها للاختفاء خلف الكواليس والعمل تحت الأرض، فالمسرح سيمتلئ بجمهور من ناس عاديين، هدفهم متابعة العرض لمعرفة نتيجة النزال بين أطراف الخصومة، ستلبس جماعة الإخوان طوال المحاكمة ثوب الضحية، وتستخدم مبدأ النفَس الطويل، لا حكم تخسره، ولا دور تفقده، بينما يخسر شعب مصر كلما طال أمد غياب الاستقرار، سواء في المدن الكبرى أو في الأطراف.

لكن مصر ليست وحدها الفاعل على خشبة مسرح اللامعقول في العالم العربي. ولإعطاء بضعة أمثلة فقط، يكفي النظر إلى ما يجري في العراق، سوريا، تونس، ليبيا، السودان، لبنان، أما عن اللامعقول على مسرح الحدث في فلسطين فحدث ولا حرج عما آل إليه العبث السياسي في دوامة خلاف فتح - حماس، وما يجري من معارك على كعكة النفوذ بين بعض القيادات داخل كل منهما، لئن كان هذا واقع من يتحملون مسؤولية ما كان يعرف بـlaquo;قضية العرب الأولىraquo;، فمن باب أولى اعتبار أن اللامعقول في مرابع غيرهم صار هو الواقع المعقول جدا، رغم كل عبثيته.

قبل أيام، مساء الجمعة أول نوفمبر الحالي، دعيت لحضور حفل العشاء السنوي للجالية المصرية في المملكة المتحدة. بدأت الأمسية بالسلام الوطني، فردد الحضور رائعة سيد درويش: laquo;بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤاديraquo;. لاحظت أن الحاضرين كانوا في حدود مائتي شخص تحلقوا حول موائد عشاء في فندق laquo;تاراraquo; اللندني. حسب تقدير لوزارة الخارجية المصرية يبلغ عدد أفراد الجالية هنا نحو مائتي ألف، بينما لا يزيد عدد الناخبين المسجلين لدى السفارة على 6225 مصريا (وفق تصريح نقلته وكالة laquo;أنباء الشرق الأوسطraquo; عن السفير أشرف الخولي بعد الاستفتاء على الدستور الجديد). انتبهت لكلمة ألقاها الدكتور أحمد المقدم، أحد مؤسسي رابطة الجالية المصرية (رجل أعمال وخبير اقتصادي معروف في أوساط بريطانية أكاديمية وسياسية) ركز فيها على جانبي الحكم (GOVERNANCE) والتسامح. في الجانب الأول لفتني تساؤله المندهش: لماذا لدينا 37 وزيرا، أي ضعف ما لدى كل من بريطانيا والولايات المتحدة؟ مضى الدكتور المقدم يتحدث عن مفارقات لافتة في التركيبة الوزارية، ثم ربط الجانب الخاص بالتسامح بذلك المتعلق بالحكم، معتبرا أن الفقر المدقع إلى جانب ضياع الأمل في تحسن ظروف المعيشة، يوصلان إلى تزايد البغضاء والحسد، ومن ثم تمدد العنف ونمو فرص التطرف.

ربما بالغ الدكتور أحمد المقدم قليلا في اندهاشه من عدد الوزراء في مصر مقارنة بعددهم في بريطانيا (24 وزارة أساسية تضم كل منها وزراء دولة لمجالات مختلفة) أو الولايات المتحدة (14 وزارة أساسية)، لكنه محق في ربطه انحسار التسامح أمام تمدد غول الفقر وتزايد البغضاء والحسد، وهو أمر بالغ الخطورة بالفعل، ليس في مصر وحدها، بل حيث هو قائم في أي من الدول العربية، وهو بالتأكيد يصب في نهر العبث العربي، خصوصا عندما نتذكر كم حصل من هدر لثروات شعوب عربية في خضم ثورات أو خضات تكسرت رماحها على صخور واقعها. نعم، تهدمت معابد على الرؤوس، إنما ما تعلم أحد أيا من الدروس، فقط صعد فاعلون جدد، كي يتواصل عرض ما يقدم باعتباره المعقول على مسرح اللامعقول العربي... ربما laquo;في انتظار غودوraquo; صاموئيل بيكيت الذي لا يأتي.