سطام عبدالعزيز المقرن


تم تشويه مفهوم الحريات بالإيحاء، بأن معناها أن يعيش الإنسان ويتصرف في إشباع غرائزه، كما تتصرف وتعيش الحيوانات، وأن الناس سوف تعيش في فوضى عارمة وفساد عظيم لو طبق هذا المفهوم في واقع المجتمع!

للحرية مفاهيم مختلفة في دائرة التراث الديني، فهي تعني تارة ما يقع في مقابل نظام الرق الذي كان سائداً في الماضي، وتارة أخرى تعني أن quot;الإنسان حر في أفعاله، أو مجبور عليها كما في مذهب الجبريةquot;، وقد يقصد بها أيضا: quot;التحرر من أسر الشهوات وقيود الأهواء والنوازع المادية والدنيويةquot;، وعلى هذا الأساس، فإن الصياغة الحقوقية للحريات لم تكن مطروحة في الماضي.
أما المفهوم المعاصر للحرية في الكتب الإسلامية الحديثة، فهي لا تكاد تختلف من حيث الظاهر في أبعادها المتنوعة quot;الاقتصادية، الاجتماعية، الفكرية..quot; عما ورد في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان، فكثير من الدعاة ورجال الدين، يتفقون على أن جميع الناس قد خلقهم الله عزّ وجل أحرارا، ومنح الإنسان حرية اختيار العقيدة والدين وحرية التعبير عن الرأي وحرية التصرف، وهذا يتفق مع المادة الأولى من الميثاق الدولي، التي تنص على quot;يولد جميع الناس أحراراquot;، والمادة الثانية عشرة التي تقول: quot;لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين..quot;.
وبالرغم من هذا الاتفاق الظاهر على المفهوم الحديث للحريات، إلا أن بعض الدعاة ورجال الدين يقفون من هذا المفهوم موقفا سلبيا، ويعملون على تحويره واختزاله إلى الحرية الجنسية والانسلاخ من الشريعة الإسلامية والأخلاق!، وذلك من منطلق الدفاع عن آرائهم التي تستند على السخرية والتهكم بمعطيات الحضارة الحديثة، والحقيقة أن الحرية لا تتقاطع مع التدين القشري والفكر المتعصب الذي لا يستطيع أن يرى الآخر كامل الحقوق ومتساويا معه فيها.
وبهذا الصدد يقول أحد الدعاة ما نصه: quot;وهكذا انتشرت حريات هي في الحقيقة عبوديات، فصار بعض الناس عبيدا للشهوات، فالشهوة هي التي تحركه وتقيمه وتقعده وتؤزه وتسكنهquot;، ويقول أيضاً في موضع آخر: quot;ليس هناك حرية في انتقاد أحكام الميراث، أو أحكام الولاية في الإسلام، أو انتقاد أحكام الطلاق، أو أحكام النكاح..quot;.
ويقول آخر عن الحرية في الإسلام: quot;ليست حرية الكفر والفسوق، ليست الحرية التي يزعمونها اليوم، حرية شخصية، هكذا يسمونها.. أي أن تزني، وأن تشرب الخمر، وأن ترتكب الموبقات كما تشاء..quot;.
ومن الأقوال السابقة، يتضح كيفية تشويه مفهوم الحريات بالإيحاء أن معناها بأن يعيش الإنسان ويتصرف في إشباع غرائزه كما تتصرف وتعيش الحيوانات، وكيف أن الناس سوف تعيش في فوضى عارمة، وفساد عظيم لو طبق هذا المفهوم في واقع المجتمع.
والحقيقة أن الحرية لا تعني التحرر من الأصول والأخلاق، وإنما تتمثل في سلطة القوانين، فالإنسان لا ينال حريته إلا في أجواء النظام والقانون، وكما يرى الفيلسوف الإنجليزي quot;جون لوكquot; عن الحرية بأنها تعني: quot;مصونية الإنسان من تحميل إرادة الآخرين عليه دون حقquot;، وذلك quot;لأن الإنسان يعيش التهديد والخطر على حرياته وحقوقه من قبل عدوان الآخرينquot;.
وبناء على ما سبق، فكأنما لسان حال بعض الدعاة يقول: quot;للإنسان الحق في حرية التفكير والنقد، ولكن في إطار ما نراه نحن، وللإنسان حرية التعبير، ولكن في إطار ما نفرضه نحن، فنحن الدعاة الذين نمنح الحرية للإنسان ونمنح الكرامة لهquot;! وهذا بالتأكيد يتنافى ويتقاطع مع المفهوم الحقيقي للحرية، فالناس في نظر البعض سفهاء وquot;السفيه إذا كان لا يعرف أن يقف عند حده بنفسه، فإن الله يولي عليه من يوقفه عند حدهquot;، وهنا يفقد الإنسان حريته طواعية.
فبعض الدعاة ورجال الدين يؤكدون على أن الإسلام أبطل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، ومع ذلك يحاول البعض استعباد الإنسان بالقول بأن عليه اتباع ما يرونه وإلا خرج عن إطار الدين والشريعة، فتجب محاكمته شرعا، كما أنهم يؤكدون على أن الإسلام كفل للإنسان حرية التفكير والرأي والاعتقاد، ومع ذلك نجد الانفعال الشديد والتعصب والإقصاء للأفكار الجديدة والمدارس الفكرية والثقافية الواردة من معطيات الحضارة الحديثة، فيتهمون أصحاب الأفكار الجديدة بالجهل والعمالة والتبعية للغرب، مع تحريض الناس ضدهم من منطلق أنهم ضالون ومضلون!! فهم لا يسمحون للفكر أن يتحرك نحو نقد ومراجعة وتعديل الموروث الفقهي، إضافة إلى تحريم الاطلاع على فكر الآخر، بزعم أنهم من أهل البدع والضلال والزندقة.
مبدأ الحرية يعتمد أساسا على أصالة الإنسان واختياره الحر، وهذا يعني أن يكون الناس أحرارا في دائرة الفكر والبيان، وهذا ما يتفق عليه الجميع، وكما رأينا آنفا فإن هذا المبدأ الذي يعبر في مضمونه عن جوهر الإنسانية، تعرض لانتقادات قاسية من بعض الدعاة ورجال الدين في محاولة اختزاله في الأهواء والشهوات، فهم ظاهرا يقرون هذا المبدأ ولكنهم في الحقيقة يحاولون تضييق الخناق على الحريات، من خلال ممارسة الوصاية على الفكر والرأي، فالبعض يشعر بالحرج من فسح المجال للحريات الفكرية؛ لئلا يتجاوز الناس الخطوط الحمراء في عملية النقد الفقهي والديني، ويحوّل الدعاة إلى عناصر مهزوزة أمام المجتمع، وأمام حالات الصراع الفكري.
إن مشكلتنا الحقيقية تكمن في الرؤية القاصرة والمشوهة لمفهوم الحرية، وفي رؤيتنا لحقوق الآخرين، ولو سادت الرؤية المتعقلة والمعتدلة والصحيحة في ثقافتنا، فإن الكثير من الأزمات والمشاكل الاجتماعية والنفسية ستُحل، ويمكن معالجتها، فالحرية تعد أساس التقدم الاقتصادي والرقي الثقافي والتكامل الأخلاقي، وليس كما يظن بعض الدعاة أنها تؤدي إلى الانحراف الأخلاقي والشر والفساد. لذا من الضروري التوجه نحو فتح قنوات متعددة للمعرفة والاعتراف بالتعددية الفكرية والدينية؛ ليعيش الناس في حالة تفاعل ثقافي تسهم في رفع مستوى وعي المجتمع، فيكون الاهتمام والسعي لسيادة القانون واحترام الرأي الآخر، والتحرك نحو حل مشاكل الناس، فهذه الأمور تعدّ من الأعمال الصالحة التي أكد عليها الإسلام.