باريس - آرليت خوري

محمود حسين هو الاسم المستعار الذي اعتمده المفكران المصريان عادل رفعت وبهجت النادي لتوقيع ما ينتجانه من كتب ومقالات، وذلك منذ صدور كتابهما الأول laquo;الصراع الطبقي في مصرraquo; (عام 1969) الذي يعد مرجعاً في تحليل تجربة اليسار والحقبة الناصرية في مصر.

المقابلة مع laquo;محمود حسينraquo; تمثل تجربة فريدة لأن لكل منهما حياته ولكن عندما يتعلق الأمر بالكتابة والعمل الفكري، فإنهما يتحولان إلى شخص واحد نظراً إلى التكامل الاستثنائي القائم بينهما. وعندما يتكلم رفعت مثلاً يلتقط النادي على الفور فكرته ويمضي بتفصيلها وتوضيحها كما لو أنها صادرة عنه عندما يأتي دوره في الكلام.

وفي أساس هذا التواطؤ والتقارب غير المألوف بين مفكرين سنوات عدة من التجارب المشتركة والنقاشات والمراجعات بدأت في سن الشباب عندما كانا مناضلين يساريين واستمرت في السجن، ثم ترسخت في باريس حيث استقرا منذ الستينات.

وفي ظل الأحداث المتلاحقة التي تشهدها مصر، التقت laquo;الحياةraquo; محمود حسين للاطلاع على قراءتهما تطورات الوضع المصري التي يلقيان عليها نظرة واقعية لا تخلو من التفاؤل من دون إغفال العثرات والانتكاسات المحتملة.

gt; كيف تقرآن التطورات الأخيرة التي شهدتها مصر؟

- لنبدأ بالقول إننا لاحظنا أن وسائل الإعلام، خصوصاً الغربية منها تعاملت مع ما حدث ويحدث في مصر من خلال منظار لا علاقة له بالواقع، وصورت ما جرى ويجري على أنه مواجهة بين الجيش و laquo;الإخوان المسلمينraquo; أو بين ديكتاتورية عسكرية وبين رئاسة ديموقراطية. وهي نظرة إما شديدة السذاجة أو سيئة الطوية، إذ إنها تُخرج من المعادلة الطرف الثالث والأساسي وهو الشعب المصري الذي يُرمز إليه بميدان التحرير.

gt; ما هو تحديداً ميدان التحرير؟

- ميدان التحرير هو تلك الجماهير العريضة التي خرجت في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، ولم تتوقف عن الخروج من يومها، إلى الساحات الشعبية في كل المدن المصرية، من دون قيادة حزبية واضحة، وهي ملتفة حول شعارات تعبر عن طموحات الغالبية العظمى للشعب وكبتت منذ ما يقارب ستين عاماً.

ميدان التحرير، أو الطرف الثالث، يضم أشخاصاً وفئات من المجتمع غالبيتهم من الشباب الذي يشكل حوالى ٦٥ في المئة من سكان مصر. وهذا الطرف الذي جرت عادة الإعلام الغربي على تجاهله، هو المحرك الأول في هذه المرحلة التاريخية، وهو رئة الشعب المصري وضميره وطليعته، وإن كان ينقصه التنظيم والرؤية السياسية الواضحة ليكون أكثر فعالية وحسماً.

gt; ما هي ميزات هذه الطليعة أو الطرف الثالث؟

- نحن في حاجة إلى عودة إلى الوراء حتى نتبين طبيعة هذا الطرف الثالث ونتفهم أهمية ما يدور الآن. فنحن نذكر أن القوات الإنكليزية احتلت بلدنا عام 1882 وكانت حجتها في ذلك أنها تريد حماية قناة السويس التي كانت تملك نصف اسهمها، بينما كانت أهدافها مختلفة تماماً إذ كانت مصر مهداً لثورة تنادي بدستور يضمن للشعب حقوقه ويفتح الباب لتحول المصريين من رعايا إلى مواطنين. فأرادت بريطانيا القضاء على هذه الصحوة الديموقراطية في مهدها. وعليه، أمضى الشعب المصري السبعين سنة التالية يناضل من أجل الحصول على استقلاله من الاحتلال البريطاني بدلاً من أن يبني أسس دولة ديموقراطية. كانت تلك مرحلة laquo;الثورة الوطنيةraquo;، والعدو الأول فيها هو الاستعمار ومن يتعاون معه من أهالي مصر. والشعب المصري كغيره من الشعوب المستعمَرة أعطى مطلب التحرر القومي أولوية مرجئاً الأهداف الأخرى إلى مرحلة تالية، فأمضى ستين عاماً بانتظار أن تستجيب السلطة الحاكمة لرغبته في إقامة حكم لا يكتفي بفرض واجبات عليه، إنما يحترم حقه في حياة حرة وكريمة. إلا أن النظام لم يبدِ طوال الستين عاماً الماضية أي تفهم لرغبات المصريين. فكانت ثورة 25 يناير 2011 التي اندلعت بعد ثورة تونس والتي أعلنت بداية مرحلة جديدة في تاريخ البلدين أصبح شعارها laquo;عيش، حرية، عدالة اجتماعيةraquo;. وهذا الشعار يعني أن الشعب خرج ليطالب بإعادة تحديد كلية لعلاقة المواطن بحكامه وجعل كل مصري من الذين نزلوا إلى الشارع قبل 25 يناير وبعده يشعر بحاجة إلى أن يؤكد ذاته من دون أن يمنعه ذلك من أن يتحدث باسم الآخرين.

gt; هذه الطليعة تحركت بداية وأسقطت الرئيس حسني مبارك ثم أسقطت المشير محمد طنطاوي وبعدهما الرئيس محمد مرسي. ولكن باستثناء ذلك، لا تبدو قادرة على التأثير في المسار العام للأمور. كيف تفسران ذلك؟

- ما ذكرتِ عن إسقاط هذه الطليعة ثلاثةَ أنظمة يؤكد قدرتها على التأثير في مجرى التاريخ. وهذه نقطة أساسية لا يجوز أن تغيب عنا. هذه الطليعة قادرة على إسقاط حكم، إلا أنها لم تتمكن بعد من تصور نظام الحكم الذي تكافح من أجله وربما، لأنها لم تصبح بعد حزباً وليس لديها أيديولوجيا واضحة أو لأنه ليس لديها خبرة في الحكم، إلا أن السبب الرئيسي لهذا القصور هو لا شك في غياب النموذج السياسي بعدما فقدت الرأسمالية رونقها ولم تعد قطباً جاذباً، وكذلك انهار الحلم الاشتراكي وأصبحت القوى الثورية في مصر وفي العالم بلا بوصلة تقودها، وبالتالي مطالبة بأن تتحسس طريقها وأن ترسم خطواتها بنفسها انطلاقاً من طموحاتها. الأهداف إذاً، واضحة، وهي laquo;عيش، حرية، عدالة اجتماعيةraquo;، ويبقى أن تكتشف القوى الثورية الطريق الذي يؤدي إليها وكيفية تحقيقها، وهذه مهمة أصعب بلا شك من المهمة الأولى.

تجميع القدرات

gt; أليس من الأفضل أن يكون هناك إطار ما لتجميع قدرات هؤلاء الشباب؟

- هذه أيضاً نقطة مهمة ولكن الأمر ليس سهلاً، لأن لدى كل من الشباب الذين يشكلون هذه القوة الجديدة إحساساً بأنه مواطن يفكر انطلاقاً من نفسه. وقد نجحوا في أن يزيحوا عن صدر مصر جبلاً رهيباً من المهادنة والسير مع التيار. والإحساس العام لديهم هو أن أي زعيم سيبرز سيتحول إلى طاغية، وهو إحساس يمكن تشبيهه بما شهدته فرنسا أثناء ثورة الشباب في أيار (مايو) ١٩٦٨. وقد تبين لنا من خلال المناقشات التي أجريناها مع بعضهم أنهم لم يبدأوا حتى الآن العمل على صوغ نصوص تلخص تجربتهم وتشكل مجموعة من الأسس التي يمكن التجمع حولها لمواجهة ما سيتعرضون له من أزمات في المستقبل.

gt; هل ثمة عوائق أخرى تحول دون إقدام الشباب على تجميع صفوفهم؟

- طبعاً، هناك القوى السياسية التقليدية التي لا ترغب في ظهور قوة جديدة مناوئة لها، وهناك نقص الإمكانات المالية والخبرة التنظيمية. إلا أن العائق الأكبر هو غياب الرؤية السياسية الواضحة أو البرنامج السياسي. البحث إذاً، مستمر وقد يشهد تقدماً وتراجعاً ويمر بطرق متعرجة، ولكن ليس هناك بديل آخر لهذا السبيل. ولنقل إن شعار laquo;عيش، حرية، عدالة اجتماعيةraquo; كان خطوة موفقة على هذا الطريق.

gt; ماذا عن عودة الجيش إلى الحكم؟

- التحرك ضد مرسي أدى إلى تحالف واسع بين الشعب والجيش، بخاصة بعد تدهور الأوضاع الأمنية في سيناء وقتل أو خطف جنود وضباط من الجيش هناك. هكذا، أدرك الفريق السيسي وقيادة الجيش أن ركائز الدولة المصرية في طريقها إلى الانهيار، وهو ما حمله على إزاحة مرسي من الحكم. والمهمة الحاسمة التي تواجه مصر اليوم هي صَوغ دستور يحدد بأمانة ووضوح صلاحيات كل جهة، فإذا حصل ذلك فلن يكون لشخص الرئيس أهمية بالغة.

gt; هل هذا يعني أن مصر اليوم تدور في حلقة مفرغة؟

- لا إطلاقاً، لأن العلاقة بين الجيش والشعب ليست على غرار ما كانت عليه عند تولي طنطاوي وزملائه الحكم. ومن المبالغ فيه القول اليوم إن الجيش هو الذي يحكم ويدير شؤون البلاد وحده لأنه يعرف عملياً أنه ليس بوسعه التصرف من دون دعم الشعب. وأول دليل على ذلك هو أن الفريق السيسي اضطر في مواجهته الولايات المتحدة والغرب، لأن يطالب الشعب بالنزول إلى الشارع، وهذا أمر غير مسبوق في تاريخ مصر وتحول كبير على صعيد العلاقات بين الشعب والجيش. وهذه ظاهرة جديدة تعني أن الجيش يعرف اليوم أنه في حاجة إلى الشعب. لكن السؤال هو هل سيستمر هذا الوضع أم لا؟ الاحتمالان قائمان إذ من الممكن ألا يستمر، فنحن نعرف أن الكثيرين في قادة الجيش لا يؤمنون بالديموقراطية ويعتقدون أن الشعب المصري غير مؤهل لها. لكن المهم حالياً هو وجود علاقة مختلفة بين الجيش والشعب مقارنة بما كان قائماً في السابق.

laquo;الإخوانraquo;

gt; هل أنتما مع التضييق على laquo;الإخوانraquo; والإجراءات المتخذة بحقهم؟

- نحن مع معاقبة من ثبت ارتكابه جريمةً ضد الشعب من أي اتجاه كان وأين ما كان، لكننا مع احترام حقوق الإنسان، ولسنا مع القمع الذي قد يستهدفهم لأن القمع في شكل عام لا يؤدي إلى نتائج إيجابية.

gt; ما الذي تتوقعانه للفترة المقبلة؟

محمود حسين: هناك خطر حقيقي يهدد الثورة على رغم التحولات الإيجابية التي شهدتها مصر. فما عاناه الشعب تحت حكم laquo;الإخوانraquo; جعله يعي ضرورة تحجيم الجانب القمعي في جهاز الدولة، إلا أنه أكد عند الكثيرين الحاجة إلى الأمن والأمان. ووزارة الداخلية تعبر عن تيار في المجتمع المصري يضغط لكي تسود قواعد الأمن على جثة ما يطالب به الشعب من حرية.

وما حصل في ميدان laquo;رابعة العدويةraquo; من عنف وقمع يثير القلق، إذ يبدو أنه لم يكن مبرراً وأنه كان من الممكن اتباع سيناريو آخر لفك الاعتصام، مثل محاصرة المعتصمين والعمل على إجلائهم من دون سقوط ضحايا قدر المستطاع في حضور مراقبين من منظمات حقوق الإنسان وكذلك الصحافة الأجنبية.

الاسئلة كثيرة والمشاكل أكثر ولا بد من أن تكون هناك نقطة للانطلاق، والشعب المصري يرى وبحق أن نقطة البداية اليوم هي الدستور.

gt; ما الذي تترقبانه من الدستور؟

- الكلام عن الدستور واللجنة التي شُكّلت لصَوغه والتفاعل الحاصل بين اللجنة وأفراد الشعب شيء جديد في الحياة السياسية المصرية، وهو علامة إيجابية على طريق صعب وشائك. والشعب المصري ينتظر الكثير من هذا الدستور، وفي طليعة ذلك تنظيم العلاقة بين سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية والحفاظ على المكاسب التي حققتها الثورة في مجال الحريات العامة واحترام حقوق المواطنين والمساواة بين الرجل والمرأة. والشعب ينتظر من الدستور أن يكون اعترافاً كاملاً بأن المصريين لم يعودوا رعايا، وإنما أصبحوا مواطنين لهم حقوق المواطن وأن الدولة مطالبة بأن تحترم هذه الحقوق وتحميها. كما أن الشعب المصري ينتظر من الدستور أن يفصل الدين عن السياسة وأن ينظم العلاقة بين الجماعات الدينية والمجتمع ويحدد وضع الجيش في المجتمع لأنه حتى الآن دولة داخل الدولة.

وهـــناك أيضــــاً مشكلة المحاكم العسكرية التي يحال عليها مدنيون بحجة أنها محاكم عادية تتوافر فيها كل الضمانات للمتهم، ونحن نعرف من تجربتنا الشخصية أن هذا غير صحيح وأن القضاة في هذه المحاكم يأتون ومعهم الحكم وهم لم يقرأوا حرفاً واحداً من ملف القضية، وهذا ما ينبغي رفضه بلا مواربة.

gt; هل هناك تخوف من تحويل الدولة المصرية مجدداً إلى دولة بوليسية؟

- هذا صحيح، والاتجاه الطبيعي هو أن تكـــسب وزارة الداخلــــية في هذا السياق لأنه يبدو أن هدف الشعب المصري الأول أصبح الأمن والاستقرار وتحسن الأوضاع الاقتصادية. إلا أن هذا الاتجاه يواجهه وعي المثقفين والناشطين لخطر الانزلاق في هذا الطريق والسماح لوزارة الداخلية بالعودة إلى نظــــام الحد من الحريات. هذا التناقض محور حديــــث دائم في المجتمع والإعلام. وفي أي حال، الانتكاسة ممكنة، وأكبر الثورات في العالم عرفت انتكاسات وتعرجات، إلا أننا نميل وبحسم إلى التفاؤل، بخاصة أن الشعب المصري أزاح رئيسين على رغم مؤامرات القوى الدولية التي لا تتوقف. وللمؤامرات الدولية حديث آخر.