طلال خوجة

اعتذر وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة عن حضور مؤتمر عن البناء الجامعي في تلة المون ميشال المشرفة على طرابلس والذي عقدته لجنة متابعة البناء الواسعة التمثيل سنة 2001، ذلك أنه كان على موعد مع وفد البنك الدولي لإقرار 70 مليون دولار للإرث الثقافي في بعلبك، وصور، وصيدا، وجبيل وطرابلس التي ناهزت حصتها 22 مليون دولار، وسلامة اعتبرها صاحبة الميزات الأثرية والتراثية والتاريخية والمدينية الأهم والأعرق، خصوصاً أن منطقة النهر وجوارها كانت في الماضي تشبه قطعة في البندقية قبل تشويهها البيئي المتمادي، كما أن مدينتها المملوكية لا مثيل لهل سوى في القاهرة، فضلاً عن قلعتها التاريخية ووسطها التراثي والتجاري المتنوع وموقع المدينة المتمددة على المتوسط، حيث تنتشر جزرها الكثيرة بينما تحتضنها الجبال والتلال والهضاب.

نعلم بحسرة أن تنفيذ مشروع الإرث الثقافي كان كارثياً فيها، علماً أنه كان من المفترض أن يدفع قدماً بالمدينة وأسواقها، ما قد يخفف من الهوة بين المناطق التي جعلت من طرابلس طرابلسان أو أكثر. والتشويه البيئي طاول كل المناطق بما فيها طرابلس الجديدة (الضم والفرز) والتي كان يمكن أن تشكل منطقة خاصة، كأن تخصص لشركات التكنولوجيا الناعمة نظراً لموقعها الاستثنائي ولطبيعتها الخضراء، مع عوامل استثمار في خدمة هذه الرؤية الاقتصادية، فضلاً عن المساهمة في الجذب السياحي عوض جذب كتل الباطون التي تحجب عن الطرابلسيين ما تبقى من نعمة الهواء التي بقيت متاحة بعد أن جرى تهشيم معظم النعم الأخرى. كما أن طريقة تنفيذ أعمال البنية التحتية تستكمل عملية التهشيم الحضاري، خصوصاً في الشوارع التي لطالما شكلت قوة جذب مميزة تراثياً وحداثياً، فقطعت الأشجار وتحولت بعض الأشغال إلى مصيدة للناس ومكب للنفايات. كما تحول التل، قلب المدينة التراثي والتجاري إلى قلب مريض، لم تنفع معه محاولة إنعاش بائسة قامت بها القوى السياسية الأساسية في المدينة بالتعاون مع جمعيات والبلدية المنهارة، حيث اقتصرت على بعض البويا في بضع ساعات رمضانية لم تخلُ من نعمة التصوير، على رغم أنها أضاءت على أزمة النخب، وإن تجلت أكثر في أداء السياسيين والإداريين، خصوصاً أن الطبقة السياسية على تنوع انتماءاتها لطالما تعاطت مع المدينة بعقلية مخاتير الأحياء، وكان همها يتركز في تجديد الولاءات والأوزان السياسية التي تترجم أخيراً مواقع في العاصمة، كما انسحب هذا الأداء على الإداريين حيث يكاد ينسى الموظف الطرابلسي في بيروت انتماءه الأصلي من دون أن ينسى بالطبع السياسي الذي أتى به. هي أزمة انتماء وتخبط المدينة القلقة ونخبها المترددة منذ نشوء لبنان الكبير مروراً بالاستقلال وصولاً لإطباق النظام السوري على خناقها وتفخيخها بلغم تبانة/بعل محسن، بعد قهر وتفكيك وإضعاف واستتباع معظم قـواها ومن ثم تطفيش الباقي.

تصدرت المدينة المواجهة بعد تفجير الحريري ورفاقه، صعوداً مع laquo;لبنان أولاًraquo;، ثم هبوطاً بعد أحداث 7 أيار وجولات العنف المستمرة وتنامي الشعور المذهبي المترافق مع سياسة الكيل بمكيالين وتمدد حزب الله داخل مؤسسات الدولة وتشكيله واجهة أمامية لإيران وسورية، وصولاً لاشتراكه المباشر في الحرب ضد الـشعب الـسـوري الثائر (الواقع بين مطرقة الاستبداد وسندان التطرفين السني والشيعي)، ومن ثم استعادة سياسة الاغتيالات التي نجحت في إلغاء رئيس شعبة المعلومات وسام الحسن، مسددة ضربة موجعة للبلد ولقوى 14 آذار المرتبكة والمنفي زعيمها الأبرز، بينما أحد أبرز وجوهها يكاد لا يغادر منزله بعد نجاته من محاولة اغتيال، وطبيعي أن ينعكس كل هذا في مرآة المدينة تطرفاً وتفلتاً مجتمعياً، خصوصاً في مناطق البؤس والتوتر، ما يريح بالطبع حزب الله ورعاته والذين شكلت طرابلس laquo;اللبنانيةraquo; شوكة أساسية في حلقهم.

وطرابلس المتروكة لمصيرها تكاد تقترب من المدينة الفاشلة، علماً أن رد فعل أبنائها على التفجيريين الإرهابيين أظهر تعلق سـوادهم الأعظم بلبنان أولاً، وإن كان مترافقاً مع إحباط إجمالي وشعور بالمرارة من مؤسسات الدولة ومن القوى السياسية على حد سواء، خصوصاً أن الحرب المستمرة عليها سهلت الاختراقات على أنواعها، مضخمة صورة طرابلس النمطية، على رغم حيوية مجتمع مدني، متعدد ومتنوع، ولكنه يعكس في بعض مظاهره جانبا من أزمة النخب وتضخم الأنا بغياب مظلة الحركة الحزبية العابرة للطوائف.

فقد وقعت موجة من الاعتداءات المشبوهة طاولت بعض العلويين، ذلك أنها ارتكبت جهاراً كما طاولت بعض المسيحيين باستهداف محلات الكحول، متمددة للميناء، مما وضع المدينة أمام مستوى جديد من الاستهدافات والاختراقات والتفلت، بينما تتراقص أجهزة الدولة والقوى السياسية حول خطة أمنية ملتبسة المحتوى والإطارات السياسية والأمنية والاجتماعية.

ربما تشكل عودة المفتي المتنور وزيارة وفد 14 آذار للمدينة وكشف المفجرين ومشغليهم نقاطاً إيجابية، خصوصاً أنها شكلت ظهيراً لانتفاضة الأرز قبل أن تترنح مع تراجع الانتفاضة وارتباك قادتها بعد الهجوم المضاد لمحور laquo;الممانعةraquo;، فضلاً عن التردد والانكفاء النسبي الذي مارسـه قادة المسـتقـبل شـمالاً بعد فشـل المصالحة التي قادها بانـدفاع سـعد الـحريري فـي أعقـاب تداعيات 7 أيار العنفية وتحـديداً بعد إسقاط حكومته، وقد بدوا عاجزين عن فعل إيجابي جـدي في المدينة بعد رعاية بضـع ساعات من الغضب.

ومع أن هذا التراجع أتى نتيجة سياسة حزب الله ورعاته واستدعائهم للتطرف، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل حجم المسؤولية التي يتحملها مسؤولو المستقبل في طرابلس والشمال، حيث أن حركتهم إجمالاً راوحت بين الانكفاء والكلام السياسي العالي الاستعراضي، أما مشاكل الناس وقضايا المدينة الحياتية والمعيشية والإنمائية والأمنية، فلم يفعلوا كمعارضة شيئاً يذكر والناس تحملهم بعض المسؤولية، بما فيها مسؤولية انهيار العمل البلدي، علماً أن رئيس الحكومة المستقيلة والتي أتت نتيجة الانقلاب الإقليمي المعروف ووزرائه يتحملون مسؤولية مضاعفة، خصوصاً أن اختراقات الحزب لمؤسسات الدولة وانتشار شبيحة سرايا المقاومة وصلت في عهده لمستويات قياسية.

إن إعلان قوى 14 آذار عن مؤتمر للمدينة على لسان منسق الأمانة العامة ومنسق تيار المستقبل يحمل بعض الروح، إلا أننا لا نخفي قلقنا على هكذا خطوة من أن تحمل طابعاً استعراضياً لا يطاول جوهر الأزمة في المدينة، خصوصاً أنها وضعت في عين العاصفة السورية.

فما هدف المؤتمر وما هي قواه وما هو البرنامج الذي سيحمله للمدينة التي تعاني من كل شيء، نقص في الإنماء والخدمات ووفرة في العنف والمخالفات والاعتداءات، فضلاً عن البطالة والبؤس، من دون أن ننسى مشكلة اللاجئين التي بدأت تفيض عن قدرة الشماليين وتنذر بمضاعفات لا تخلو من العنصرية والتي ينفخ فيها حلفاء النظام الذي شردهم. ودمر بلداتهم وقراهم.

لا يملك الطرابلسيون الوقت الكافي في انتظار هذا المؤتمر، ذلك أن استهداف النظام السوري وحلفائه لطرابلس يزداد ضراوة، ما يتطلب استعادة سريعة لزمام المبادرة السياسية تعيد للمدينة ونخبها المدنية وزنها بعد أن انكفأ لصالح قوى أخرى لا تعبر عن الأكثرية الساحقة لأهلها، وقد ازداد وهجها مع تنامي الإحباط والتطرف والتسلح، ومن ثم laquo;الانقضاضraquo; في معركة عبور الدولة إلى طرابلس قبل أن تنفجر بالكامل وتفجر معها البلد كله، كما يتطلب تغييراً جدياً في سياسة الاستخفاف بمـشاكل الخـدمات والإنـماء والاقتصاد والتعليم والتي تـضع المديـنة مع عـكار والـضـنية في السلم الأدنى لبنانياً، مما يساهم في ازديـاد التملـيش والتفـلت الـمسـلح والـمرعـي بـجزء كـبير منه.