عبد العلي حامي الدين


لماذا تعطلت مشاريع الإصلاح والتغيير في المنطقة العربية؟
إنه سؤال صعب ومحرج، وليس الغرض من طرحه في هذه المقالة هو الجواب عليه بسرعة، لكنه سؤال يفرض نفسه في كل المناسبات التي تحاول الإجابة عن أسئلة التغيير في العالم العربي.
فمن المؤكد أن إخفاقنا في تحقيق العديد من مشاريع التغيير، يقابله في الضفة الأخرى نجاح أمم أخرى في تحقيق تقدم كبير على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي..
وهو ما يفرض علينا أن نتواضع لقراءة هذه التجارب بهدف الاستفادة منها واستخلاص العبر والدروس التي تساعد صناع القرار والقيادات الحكومية والفاعلين السياسيين ونشطاء المجتمع المدني الراغبين في تقدم بلدانهم ورخائها وازدهارها..
ففي المجال السياسي والمؤسساتي، نجحت مجموعة من التجارب الناجحة في تحقيق انفتاح حقيقي لأنظمتها السياسية، وذلك بفضل توافق القوى السياسية والاجتماعية التي تنشد التغيير على نظام حكم سياسي معين، وهو الديموقراطية..
لقد تم التوافق على أسس النظام السياسي الديموقراطي ومبادئه وآلياته وضوابطه وضماناته المتعارف عليها، كبديل لنظام حكم الفرد أو القلة.
إن إرادة التوافق والتعاون ونبذ روح التنازع والفرقة، وإيمان الجميع ـ قولا وفعلا ـ بالنظام الديموقراطي، ساهم في توسيع قاعدة الموالين للدولة ومؤسساتها، وفي تكتل الجميع وراء الديموقراطية كنظام سياسي وكآلية لحل الصراعات السياسية بالطرق السلمية..


كما أن نوعية القيادة ونزوعها نحو الاعتدال والانفتاح، يعد من أهم عوامل نجاح مشاريع التغيير السياسي في عدد من البلدان وانتقالها من أنظمة شمولية إلى أنظمة سياسية منفتحة (دور الآباء المؤسسين في الهند lsquo;نهروrsquo;، وماليزيا lsquo;مهاتيرrsquo;، دور نيلسون مانديلا وديكليرك في جنوب إفريقيا، وفاونسا في بولندا، وأكينو في الفلبين، وسواريز في إسبانيا..).
صحيح، أن المنطقة العربية لها خصوصياتها وإشكالياتها التي تعوق مشاريع التغيير، من ذلك مثلا، ما يتعلق بدور العامل الخارجي وأثره على مسار الإصلاحات المنشودة، وهو عامل حاسم ولا بد من قراءته بشكل دائم ورصد التحولات السريعة التي تعرفها مواقف الدول الكبرى والتكييف الجاري لاستراتيجياتهم، كما أن هناك العديد من القضايا غير المحسومة بين الفرقاء السياسيين على المستوى الداخلي من قبيل دور الدين وموقعه في الحياة السياسية، وبالديموقراطية نفسها كمفهوم وكنظام للحكم، وبدور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية..إلى غير ذلك من الإشكالات المثارة التي تفرض علينا ضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين وكيف نجحوا في بناء توافقات تاريخية واتفقوا على قواسم مشتركة وتكتلوا من أجل المصالح العليا لبلدانهم، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على معدلات النمو التي عرفت ارتفاعا مقدرا في البلدان التي نجحت في بناء تجارب ديموقراطية حقيقية قائمة على مؤسسات سياسية قوية وعلى نصوص دستورية وقانونية على درجة عالية من الجودة ونجحت في بناء مجتمعات متقدمة على كافة المستويات.
التغيير عملية معقدة تخضع لقواعد سببية (سننية) وليست عملية اعتباطية أو فجائية غير متحكم فيها، ولذلك فإن التغيير نحو الأفضل ممكن دائما ما دام الإنسان يمتلك قدرات عقلية ومادية يستطيع بواسطتهما تطوير أدائه باستمرار..(كان شعار باراك أوباما في حملته الانتخابية الأولى lsquo;yes ; we carsquo; : lsquo;نعم نستطيعprime;، وهو شعار يستبطن شحنة معنوية قوية ملؤها الإرادة والطموح الكبير لصناعة التغيير..لكن بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد، وهذا من أهم أسباب النجاح، أي كيفية تفجير الطاقات الجماعية الموجودة في قلب المجتمع وعدم الاكتفاء بتمجيد سلطان الفرد بطريقة تتجاوز حدود المعقول..
لكن توفر إرادة التغيير لا يعني القدرة على التغيير، فهناك دائما مساحة شاسعة بين الإرادة والقدرة، كما أن هناك دائما فرقا بين الرغبة في التغيير والقدرة على التغيير..
إن توفر عناصر الإرادة والرغبة يعتبر شرطا ضروريا في كل المشاريع التغييرية، لكنه ليس شرطا كافيا لتحقيق النجاح في عملية التغيير، ولذلك لا بد من توفر شرط الخبرة والعلم وامتلاك القدرة على استيعاب آليات التغيير كيفما كانت نوعية الظاهرة المراد تغييرها.


فسواء تعلق الأمر بتغيير الظواهر الاجتماعية السلبية، أو تعلق الأمر بتطوير المؤسسات السياسية وإصلاحها، أو تعلق الأمر بتغيير النصوص القانونية فإن شرط الخبرة والكفاءة والفهم والإلمام بالأسباب المؤدية لهذه الظواهر يعتبر المدخل الضروري لإحداث التغيير المطلوب في البنيات المراد تغييرها نحو الأفضل.
كما أن التغيير ليس هدفا يتحقق بأسلوب الطفرة أو الثورة، ولكنه مسار تراكمي تدريجي يخضع لبناء حقيقي، ويتطلب الكثير من الصبر والتروي والأناة..
إن زمن الإصلاح والتغيير مرتبط بتوفر شروط معينة ينبغي العمل على تحقيقها قصد تحقيق فهم أفضل لأسباب تعثر مشاريع الإصلاح والتغيير في المنطقة، والثورة نفسها ما هي إلا مسلسل من التغييرات السياسية والثقافية والاجتماعية والقانونية التي تتطلب زمنا سياسيا معقولا.
بعد التحولات السياسية الهامة التي عرفتها المنطقة العربية بعد الرجة الثورية التي انطلقت ولم تستكمل دورتها بعد، هناك محاولات جادة لإعادة صياغة القوانين الأساسية لعدد من البلدان، بعضها ستعمل على تغيير معالم النظام السياسي للبلاد، لكن من المؤكد أن عملية تغيير النصوص الدستورية ليست عملية تقنية فحسب ولكنها عملية تاريخية تحتاج إلى تراكم ضروري لتعديل موازين القوى، والنجاح في إفراز نخب قوية قادرة على التعبير على إرادة التغيير من داخل المؤسسات الرسمية ومن خلال المؤسسات المنتخبة وطنيا ومحليا.
غير أن أن إصلاح المؤسسات وتطويرها لابد أن يمر عبر آليات دستورية وقانونية دقيقة، يلعب فيها الجانب المسطري دورا أساسيا يتجاوز بكثير الخطب المنبرية التي يوظفها السياسيون لدغدغة عواطف العامة، بعيدا عن الآليات القانونية والتشريعية التي تصنع التغيير المطلوب.


غير أن قوة القانون على أهميتها تبقى بحاجة إلى تغيير اجتماعي وثقافي عميق، وهو ما يتحقق عبر الرفع من قدرات المجتمع المدني وتطوير آليات اشتغاله.
ذلك أنه لا بد لكل مشروع تغييري من بيئة اجتماعية وثقافية حاضنة، وهو ما يتطلب الرفع من قدرات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية للقيام بالعديد من الوظائف التوعوية والتنموية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.. إن النهوض بأدوار المجتمع المدني يتطلب تأهيله والرفع من قدراته..غير أن هذا التأهيل بدوره يمر عبر آليات قانونية وتنظيمية تعمل على تيسير سبل اشتغاله، وتوفير وسائل العمل بالنسبة له، كما تفتح أمامه الأدوات المؤسساتية الضرورية للتعبير على قوته الاقتراحية في علاقتها ببلورة السياسات العمومية التي تشرف على إعدادها السلطات العمومية، وهكذا يصبح المجتمع المدني شريكا أساسيا في عملية التغيير من خلال مشاركته في صناعة القرار.
الخلاصة الأساسية من خلال ما سبق أن رهان التغيير الحقيقي يتوقف على قدرة الفاعلين على تركيب أطروحات نظرية تؤمن بتكامل الأدوار بين النخبة المسيسة والمجتمع، وتعلي من شأن القانون دون أن تهمل دور الشرط الثقافي في صناعة أي عملية إصلاحية مرجوة، ومفتاح الأمر كله هو القدرة على صناعة التوافق وبناء أرضيات عمل مشتركة والتحرر من النزعة الشمولية التي تحاول أن تهيمن على كل شيء فتجد نفسها وقد فقدت كل شيءhellip;.