عبدالحميد الأنصاري


التطرف الديني، الذي تحول إلى عنف إرهابي يجتاح المجتمعات العربية، أصبح ظاهرة مقلقة لكل المؤسسات الموكل بها تقوية وتحسين المناعة المجتمعية تجاه فكر التطرف تربية وتعليماً وإعلاماً وخطاباً دينياً.
وأصبحت التساؤلات المطروحة باستمرار في الندوات والورش النقاشية كافة، التي تعقد حول ظاهرة التطرف الديني وسبل مواجهتها واحتوائها، هي: لماذا أخفقت أساليب التربية ومناهج التعليم ووسائل الإعلام ومنابر الدعوة والإرشاد الديني والمؤسسات الثقافية في الدول العربية في تحقيق quot;التحصين الفكريquot; للمجتمعات العربية في مواجهة مرض التطرف الديني؟! لماذا لم تستطع هذه الأجهزة المسؤولة عن quot;الأمن الفكريquot; للمجتمع، حماية ناشئتنا وشبابنا من غزو الفكر المتطرف؟! لماذا أصبحت مجتمعاتنا ورغم الموارد الهائلة المخصصة للتعليم والتثقيف والتوعية والتوجيه عندها quot;القابليةquot; للفكر المتطرف؟!


وبطبيعة الحال فليس الهدف من طرح هذه التساؤلات، توجيه اللوم أو تحميل المسؤولية لأي جهة من الجهات، بمقدار محاولة تلمس أسباب وعوامل الاخفاق، وصولا إلى الافادة من دروس الماضي، أولاً وضع quot;خارطة الطريقquot; لسبل مناهضة التطرف الديني. وثانياً، وفي تصوري: إن الخطورة ليست في وجود التطرف الديني لدى بعض شبابنا من الجنسين، فالتطرف موجود في المجتمعات البشرية كافة: المتقدمة والمتخلفة، وإن كانت نسبه وأحجامه تختلف من مجتمع إلى آخر، كما أنه لا مشكلة في التطرف الديني إذا اقتصر على مجال الفكر ولم يخرج إلى حيز الوجود في شكل سلوك عدواني على الآخرين أو خطاب تحريضي ضدهم، كما أنه لا قضية مؤرقة إذا اقتصر التطرف أو التشدد على الشخص نفسه في سلوكياته وتصرفاته الشخصية، ولم يحاول فرض وصايته على الآخرين وإلزامهم بما يعتقده أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر بطريقة العنف والقوة والإرهاب.
كل هذا لا يشكل ما يستدعي القلق والتوتر، لكن الأمر المقلق والمحير -أيضاً- هذه quot;القابلية المجتمعيةquot; لاحتضان أفكار التطرف، القضية ليست في وجود الفكر المتطرف دينياً وغير ديني، القضية الأساسية والخطيرة هي في وجود quot;البيئةquot; المتعاطفة مع هذا الفكر المتطرف، وفي تمجيده وفي إعلاء شأن رموزه وافساح المجال لهم في القنوات الفضائية، وتمكينهم من المنابر الدينية، لبث فكرهم المتطرف وتغذية النشيئة والشباب به بحجة المحافظة على الأصالة والهوية في مواجهة التغريب والغزو الفكري!
هذا هو البلاء الحقيقي في تصوري وليس التطرف الديني في حد ذاته، لم يكن للتطرف الديني أن يتنامى ويستفحل لولا الدعم المجتمعي، ولولا البيئة المجتمعية الحاضنة التي ترى في الأعمال العدوانية لهؤلاء المتطرفين على العسكريين وغيرهم من المدنيين: مسلمين وغير مسلمين، جهاداً واستشهاداً! كثيرون، كتابا ومفكرين ومشايخ، إن لم يؤيدوا التطرف طرقه، أو استنكروا العنف الناتج عنه، إلا أنهم يلتمسون له أعذاراً ومبررات وذرائع سياسية اقتصادية واجتماعية ودولية، أنا أتفهم تفسير التطرف بتلك الذرائع لا تبريره (التفسير غير التبرير)، فالتفسير قد يساعد في التشخيص والحل، لكن التبرير يطيل عمر التطرف ويساعد على انتشاره ودفع مزيد من الشباب إلى التطرف، يبررون التطرف بأنه quot;رد فعلquot; لعنف الأنظمة العربية للإسلاميين وتعذيبهم في السجون.
وهكذا يتحول خطاب إدانة العنف الديني إلى إدانة الأنظمة باعتبارها مسؤولة عنه، وهذا quot;تضليلquot; لأن عنف الإسلاميين كافة، وبمن فيهم جماعة quot;الإخوانquot;، quot;سابقquot; تاريخيا على عنف الأنظمة ضدهم، وإن استنكارنا عنف النظام ومبالغته في القسوة والظلم ولبعض الأبرياء منهم، quot;الإخوانquot; هم الذين بدأوا بإنشاء quot;النظام الخاصquot; 1940 وتدريبه وتسليمه ليصبح quot;ميليشياquot; وظيفتها تصفية خصوم quot;الإخوانquot;! وصفوا القاضي الخازندار 1984 ورئيس الوزراء النقراشي 1949.


فعنف quot;الإخوانquot; ليس ناشئاً عن عنف الدولة المصرية كما يدعون، بل هو quot;أصيلquot; في مناهجهم وطروحاتهم وشعارهم quot;المصحف والسيفquot;، وكذلك عنف الجماعات المتشددة كافة التي خرجت من عباءة quot;الإخوانquot;... quot;سابقquot; لعنف النظام، إن ظاهرة التطرف الديني والعنف الناتج عنها، ليست وليدة الظروف السياسية اليوم، بل هي قديمة قدم تطرف الخوارج وسلهم السيف على المجتمع الراشدي، تحت شعار quot;الحاكميةquot; لله تعالى، ولازَم هذا التطرف المجتمع العربي لكنه كان هامشياً ثم توحش وأصبح ضارياً يفتك بشبابنا ومجتمعاتنا اليوم.
التطرف ليس وليد القطر السياسي ولا الانحياز الأميركي والغربي لإسرائيل، وليس ناشئاً عن الفقر والبطالة أو quot;الغلو العلمانيquot; كما يدّعي محمد عمارة! التطرف الديني quot;أصيلquot; ناشئ عن فهم ديني منحرف، ويستند إلى نصوص أسيء تفسيرها، وإلى ثقافة quot;فجر نفسك، تدخل الجنةquot; لو كان التطرف رد فعل لما وضع الجنة هدفاً؟! كما يقول رضوان السيد، لذلك فإن إثم quot;التبريرquot; لا يقل عن إثم quot;التحريرquot; لأنه مضلل ويستديم التطرف وينشطه.

أخيراً: حول مناهضة التطرف الديني، نظم quot;مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيةquot;، وهو مركز بحثي نشيط، حلقة نقاشية مغلقة، حضرها نخبة من أهل الفكر والثقافة.
*كاتب قطري