نوح بونزي


كثيرة هي نقاط الضعف التي تشل المعارضة السياسية السورية، إلا أن علاقاتها الوثيقة مع الحكومات الصديقة، والتي من المفترض أن تكون مصدر القوة لديها، تعد من أكثر العوامل تقويضاً لصدقيتها، فقد اتضح الأمر أكثر من أي وقت مضى في تخبط الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية (الائتلاف) تحت الضغوط التي مورست عليه إزاء حضور محادثات laquo;جنيف 2raquo;.

إن علاقات الائتلاف مع الأطراف الداعمة الإقليمية منها والغربية ليست مجرد علاقات خارجية، بل هي الحجر الأساس الذي يقوم عليه الائتلاف والمحور الأساسي في وجوده. ولا يثير هذا الأمر الكثير من الدهشة إذا أخذنا في الاعتبار العقود الأربعة من حكم الأسد الذي مارس القمع المُمنهج لمنع ظهور أي بديل له. ومع ذلك فإن تشكيلة المنفيين والمفكرين المعارضين الذين شكلوا نخبة المعارضة في مستهل الانتفاضة تفتقد الأسس السياسية داخل سورية وسبل إظهار الدعم الشعبي لها.

أما مجموعات النشطاء المحليين الذين ظهروا خلال الأشهر الأولى للانتفاضة فلم يتمكنوا من تطوير شبكات وطنية حقيقية، إذ تآكل نفوذهم عندما ازدادت عسكرة الصراع وما تمخض عنها من انتشار للفصائل المسلحة على نحو يصيب المرء بالدوران. وفي ظل غياب وسائل أخرى لتقويم الوزن السياسي النسبي، ظهر الدعم الخارجي كعامل حاسم في توزيع النفوذ داخل الائتلاف إبان تشكيله في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، فلم يعارض النشطاء الذين منحوا الائتلاف مصادقة مبدئية هذا الأمر، فقد اعتبروا أن مهمة الائتلاف تتمثل في حشد الدعم السياسي والعسكري الدوليين لإطاحة بشار الأسد، وليس الاضطلاع بدور القيادة المباشرة للانتفاضة على الأرض.

نتيجة لذلك، حدد الدعم الخارجي شكل الائتلاف وكان بمثابة العملة السياسية الرئيسية له. وبذلك استغلت الكتل المتنافسة داخل الائتلاف الدعم الإقليمي لها لزيادة نفوذها في الجدالات الداخلية. وبدورها ظهرت الخلافات والتنافسات بين الدول الداعمة داخل الائتلاف، وغدت هذه الديناميات واضحة للعيان وأثبتت مدى ضررها خلال انتخابات آذار (مارس) الماضي لتعيين رئيس وزراء موقت حين تحالف أحد التكتلات ذو النفوذ بقيادة مصطفى صباغ، رجل الأعمال المقرب من قطر، مع كتلة أخرى يقودها الإخوان المسلمون لانتخاب المرشح المغمور غسان هيتو، وأثارت هذه النتيجة استياء أطراف أخرى داخل الائتلاف خشية بسط تحالف إسلامي تدعمه قطر سيطرته على المعارضة السياسية.

رفض هيتو وما تلاه من دعم لجهود المعارض العلماني البارز ميشال كيلو لتأسيس كتلة سياسية جديدة، والانخراط مع الولايات المتحدة وفرنسا للضغط على الائتلاف لتوسيع عضويته أحبط تعيين هيتو كرئيس وزراء موقت، ورجحت كفة الميزان الإقليمي للقوى داخل المعارضة السياسية لمصلحة قطر. إلا أن الخلافات الجيوسياسية وتلك القائمة بين التكتلات في الائتلاف أضحت مصدر تشتيت هائل سيطر على جدول أعماله لشهور عدة ومنعه من إحراز التقدم على أي جبهة أخرى. لم يتسنَ للائتلاف تسمية رئيس وزراء موقت بديل حتى مطلع أيلول (سبتمبر)، وبحلول الوقت الذي عين فيه وزراء موقتون للإشراف على تقديم الخدمات في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، أي بعد أكثر من ثمانية أشهر على انتخاب هيتو، كانت بعض المناطق التي كان يسيطر عليها مقاتلو المعارضة والتي من المفترض أن تديرها الحكومة الانتقالية الجديدة قد وقعت تحت نفوذ تنظيم laquo;الدولة الإسلامية في العراق والشامraquo;.

بدلاً من أن ينكب الائتلاف على إيجاد حل للقضية المُلحة المتمثلة في طريقة لعب دور فعال على الأرض، ترك نفسه في مهب ريح التشظي الجيوسياسي الأخير الذي أثارته كل من الولايات المتحدة وروسيا للدفع به نحو إجراء محادثات laquo;جنيف2. laquo;لا غبار على الهدف النبيل من هذه الجهود، فالحل السياسي يبقى الأمل الأكبر في إنهاء هذه الحرب الكارثية والخاسرة لكلا الطرفين، إلا أن الضغوط الأميركية الواضحة على الائتلاف لحضور المؤتمر زادت من تقويض صدقيته الشحيحة أصلاً في أوساط المعارضة.

وأثار قرار واشنطن إلغاء تهديدها بالقيام بعمل عسكري مقابل إنهاء النظام السوري برنامج أسلحته الكيماوية، الصفقة التي أنهت بعض المشاغل الأميركية تاركةً للنظام السوري مطلق الحرية في تصعيد حربه على المناطق المؤيدة للمعارضة مستخدماً أسلحة غير كيماوية، أثار هذا القرار تساؤلات جديدة لدى المعارضة في شأن أهمية وجود الائتلاف وهو الذي كان يعتقد بأن قدرته على استمالة واشنطن كانت قيمته المضافة. بينما يتمتع النظام السوري بدفـــعة مــن الشرعية على الساحة الدولية كمكافأة على إنهاء برنامجه الكيماوي، ومع اســتمرار موســكو في تــقديم الدعم له، أضف إلى ذلك الشـــكوك التي يبـــديها حلفاء عرب للمـــعارضة السورية، تنـــظر القوى الرئيسية في المعارضة وعلى نحو واسع إلى laquo;جنيف 2raquo; على أنه محاولة لإعادة تأهيل شرعية النظام، وليس إجراء مفاوضات لاستبداله.

وما يزيد الطين بلة هو رفض النظام السوري علناً الشروط التي من المفترض أن تقوم عليها المحادثات المنصوص عليها في بيان جنيف المعلن في حزيران (يونيو) 2012 الذي ينص على إنشاء هيئة انتقالية يتفق عليها الطرفان وتتمتع بكافة السلطات التنفيذية، وعدم إبداء روسيا أي مؤشر يدل على رغبتها أو حتى قدرتها على الضغط على النظام لقبول أي انتقال سياسي حقيقي.

واجه الائتلاف خيارين في ما يخص محادثات جنيف أحلاهما مر. فإما أن يرفض الحضور وبذلك يعطي النظام وداعميه انتصاراً على مستوى العلاقات العامة ويلحق الضرر بعلاقاته مع واشنطن التي تبقى محوراً أساسياً للحفاظ على ما تبقى للائتلاف من أهمية. وإما أن يرضخ للضغوط ويوافق على الحضور في ظروف غير مواتية، وبذلك يسدد الضربة القاضية لصدقيته في أوساط المعارضة، لا سيما بعد التصريحات الأخيرة التي أدلت بها الجماعات المسلحة البارزة حيث رفضت بكل صراحة مؤتمر جنيف 2 وأي شخص يشارك فيه. أما قرار الائتلاف في 11 نوفمبر الذي عبر عن استعداده المشروط لحضور المحادثات فلم ينه هذا الجدل، وحتى ولو توافرت شروط الائتلاف المسبقة والمتمثلة في ضمان إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة من دون انقطاع وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، فإصراره أن تستند المحادثات إلى مبدأ النقل الكامل للسلطة التنفيذية يترك الباب موارباً ليعفي البعض من الحضور، لا سيما في ضوء رفض النظام لهذه الشروط.

ليس من الصواب أن يكون الأمر كذلك. فمن وجهة نظر المعارضة، لا تكمن مشكلة مؤتمر جنيف 2 في مفهوم المحادثات الذي تقود إلى انتقال سياسي، وإنما يَكمن في الشكوك السائدة حول تمتع هذه العملية بحد ذاتها بأدنى فرصة لتحقيق ذلك الهدف. وبدلاً من جر الائتلاف إلى طاولة المفاوضات، يجدر أن تتمثل أولوية حلفائه الغربيين أولاً بضمان وجود أرجل تقف عليها تلك الطاولة. وعليه فمن الأجدر بدلاً من استخدام نفوذ الديبلوماسية الأميركية لممارسة الضغط على الائتلاف، ممارسته لحض موسكو على إظهار استعدادها للضغط على النظام لتقديم تنازلات. أما إذا واصلت روسيا صمتها في حين يقوم بشار الأسد بممارسة سياسة التجويع الممنهجة على أحياء المعارضة التي تبعد أميالاً قليلة عن مكتبه، فلن يكون هناك الكثير مما يمكن مناقشته في جنيف.