رشيد الخيّون

كان الهجوم (11 نوفمر 2013) بالعصي والمساحي على العامل في شركة النفط، قريباً من الزُّبير، دموياً جارحاً للإمام الحسين بن علي (61 هـ) قبل جروح البريطاني البليغة، والذَّريعة أنه أنزل أعلام عاشوراء وصُور في المناسبة. هناك من يتحدث أيضاً عن دوافع سياسية للفت أنظار شركات النفط وربطها بالموقف من التجديد لرئيس الوزراء، وقد يؤخذ هذا الرأي بنظر الاعتبار للدور الأميركي الذي ما زال فاعلاً، ودور الشركات النفطية المعروف عبر تاريخ العراق. نقف في منزلة بين منزلتين من السبب الأخير، لا مصدقين ولا مكذبين، مع ملاحظة أن الحادثة بالترتيب نفسه تكررت عند مقرات شركات النفط المحمية هذا العام، ويبقى الاستغراب قائماً؟!


مهما كان السبب، فهناك قدرة مؤثرة لم تترك للشباب عقولاً يميزون بها بين الأشياء، أعادت بهم الزمن إلى صبيحة العاشر من محرم 61 هـ، ففي تلك اللحظة تحول الموظف البريطاني إلى الشمر بن ذي الجوشن (قُتل 66 هـ)، أحد أبرز قتلة الحسين، بينما تقمص المهاجمون شخصيات أنصار الحسين، يجولون في الغاضرية قبل أربعة عشر قرناً! فكانت الصيحات: laquo;لبيك يا حسين!raquo;. ولو كان هناك عقل لميزَ الشعار وتساءل وتصرف بما يقتضيه العقل؟ وبهذا لم يختلف هؤلاء عن الشباب الذين شكلت عقولهم فتاوى القتل، يفجرون أنفسهم مقابل وعد بالجنة.

نقرأ في سيرة الشِّمر أنه كان من زعماء هوازن، ومن الشجعان في معركة صفين (الزركلي، الأعلام) في جيش والد الحسين، علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ)، ضد جيش أهل الشام بزعامة والد يزيد، معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ). فلنا النظر في أمر السياسة وتحولات الرجال، فلو قتل laquo;الشمرraquo; وهو يحارب مع علي لكان الآن له ضريح يُتشفع به! شأنه شأن laquo;الحر الرِّياحيraquo; (قتل 61 هـ)، الذي قطع الطريق على الحسين (الأصفهاني، مقاتل الطَّالبيين)، ثم ألتحق به حتى هلك دونه (الطبري، تاريخ الأُمم والملوك)، وها هو ضريحه يُزار بكربلاء! كذلك سقط من الذاكرة السياسية والمذهبية أحد أبناء علي، هو عبيد الله بن علي بن أبي طالب (قُتل 67 هـ)، لأنه حارب ضد المختار بن عبيد الله الثقفي (قتل 67 هـ) وقتل بسيف الأخير! بينما يُراد للمختار أن يبقى رمزاً للثأر. فظل اسمه يتداول مع القديسين، مع أنه قتل ابن علي وأخا الأئمة، فالذين حاربوا البريطانيين برئاسة المجتهد والشَّاعر محمد سعيد الحبوبي (ت 1915) نقشوا على راياتهم: laquo;يا ربَّنا سَلم على المختار/واجعل لنا نصراً على الكفارraquo; (الصَّراف، ذكريات 1914-1964). ثم بنحو مئة عام أعد أحد اللاعبين طائفياً حملةً باسم laquo;المختارraquo; إلى البحرين، لكن الفرق بين صاحبنا والحبوبي أن الأخير تغاضى عن كل طائفية عثمانية أمام تهديد العراق من حدوده الجنوبية. بعدها رفعت ببغداد مظاهرات حكومية، وسط بغداد، لافتة laquo;مختار العصرraquo;!

صارت ذكرى استشهاد الإمام الحسين (قتل 61 هـ)، ومِنذ زمن طويل، أمراً واقعاً مع اختلاف الطرائق. فمن غير محنته أُتفق على أنه ثاني سيدي شباب الجنة: laquo;الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَاraquo; (سنن الترمذي). كذلك أفتى ابن تيمية (ت 728 هـ): laquo;الحسين، رضي الله عنه، أكرمه الله تعالى بالشهادة في هذا اليوم، وأهان بذلك من قتله، أو أعان على قتله، أو رضي بقتله، وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء، فإنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة...raquo; (فتوى شيخ الإسلام). أما الروايات الشيعية لهذا الحديث فعديدة.

كان القائلون، من مشايخ مذاهب السنة كثيرون في تبجيل الحسين، وأتينا بقول ابن تيمية لعلمنا أنه الأكثر تداولاً على ألسنة جماعات من الإمامية حتى عُد laquo;ناصبياًraquo;، وتعريف الناصبي من يكره أهل البيت. صنف laquo;منهاج السنة النبويةraquo; رداً على كتاب مجايله ابن مطهر الحلي (ت 727 هـ) laquo;منهاج الكرامة في معرفة الإمامةraquo;. النتيجة الحسين ليس طرفاً بذاته، إنما الخلاف بين مقالات المذاهب. هذا الكلام لا يرضي أتباع ابن تيمية ولا أتباع ابن المطهر، وليكن كذلك، ما زلنا نعتقد أن سيد شباب الجنة يكون إمام سلام ومحبة وصاحب عقل، لا إمام عنف وكراهية ولا من أصحاب المطاوي والعصي!

أولئك الشباب الذين مثلوا دور أنصار الحسين ضد الموظف البريطاني، يتراوحون بين ولادات نهاية الثمانينيات والتسعينيات، شكلت عقولهم أهوال الحروب والحصار، وما جاء بعد التاسع مِن أبريل 2003 من شدائد تثني الحديد الصلب. فليس من الحق أن يعُمم هذا الفعل بـ: laquo;أنظروا ماذا يفعل الشيعةraquo;؟ فلو سمعنا مواكب عاشوراء هذا العام نجد مواكب شباب اكتفت بالقصائد الهادفة، لا قامات ولا سلاسل، لأنهم يعتقدون أن الحسين ليس صاحب ثأر، ولا رئيساً لجماعة من المسلمين دون غيرها، إنما اسمه ارتبط بالاحتجاج الإنساني.

لا يهمهم على أية طائفة تكون السلطة، ومهما عظم وكبر موكب رئيس وزرائها أو الوزراء - أقصد موكب عاشوراء وليس مواكب الحمايات- إنما عقيدتهم في الحسين أنه خرج على السلطة. وهل يفرق استغلال السلطة، ونهب المال العام والعجز عن الإيفاء بالوعود المقطوعة في الانتخابات بين مذهب وآخر؟! لذا نجد مواكب مارست عاشوراء برقي شكت للحسين ممَن يستغل اسمه صباحَ مساء: laquo;يا أبو الغيرة العِلة چبيرة (كبيرة)raquo;! ولم يكن الشيعة العراقيون تحت يد دولة أجنبية مهما كان التلاقي معها، فالوطن أولا، فجاء في مخاطبة السلطة العراقية : laquo;لا تظن ما عندي لسان/ شعليه (ما هي علاقته) سفير إيرانraquo;! أقول: من الاستحالة (العراق خصوصاً) أن ينسجم عاشوراء مع السلطة، وإن تعلقت بأستار المذهب!

حسب الرواية، كان الحسين قد عَرف النفط، فقال والده: laquo;أخذوه وأدرجوه في بواري ثم طلوها بالنَّفط وأشعلوا فيها النَّارraquo; (المسعودي، مروج الذهب). وتدور القرون، وظل النفط مطوياً تحت الأرض، حتى أفرجت عنه شركات من عالم آخر لا يدين بدين الحسين ولا ينطق بلغته، وفجأة يُطلب ثأره منها، بدعوى إنزال رايته! ولكم قياس مسافة الزمن بين البريطاني القادم لاستخراج النِّفط وشقاة يطلبون ثأر الحسين منه. أقول: لو عاش الإمام الحسين إلى زمن اكتشاف النفط، كما تخيلناه رمزاً للحرية والتقدم، سيقف بصف مَن؟! الإجابة واضحة! فحاملو العصي لا يكتشفون نفطاً ولا يعيدون عمراناً!