راغدة درغام

الآن وقد وصلت الحرب السورية إلى لبنان عبر التفجير الانتحاري أمام السفارة الإيرانية هذا الأسبوع، بات لبنان مرشّحاً لـ laquo;العرقنةraquo; وازداد احتمال تلقّيه ضربات عسكرية إسرائيلية laquo;وقائيةraquo; مع تحوّله إلى ساحة قتال بين laquo;حزب اللهraquo; و laquo;القاعدةraquo; وجهاديين من كافة الأنواع والأهداف. أصبح لبنان جاراً فالتاً لا حكومة فيه، يكتظ بالمسلحين والميليشيات، وإسرائيل تخشى مثل هذه الفوضى على حدودها وهي تضع الخطط الطارئة للاحتمالات كافة. الأنظار تتوجه الآن إلى كيفية العملية الانتقامية التي قد يقوم بها laquo;حزب اللهraquo; أو laquo;الحرس الثوريraquo; التابع للحكومة الإيرانية ونوعيتها، رداً على العمليتين الانتحاريتين الإرهابيتين ضد السفارة الإيرانية في ضاحية بيروت الجنوبية، والتي أسفرت عن مقتل 25 شخصاً وجرح أكثر من 150 تبنّت مسؤوليتهما laquo;كتائب عبدالله عزامraquo; المرتبطة بتنظيم laquo;القاعدةraquo;. هناك إجماع وإدانة دولية للعملية الإرهابية، كما لـ laquo;القاعدةraquo; ومشتقاتها أينما عملت، أكان داخل سورية ولبنان والعراق أو ضد مواقع أميركية وأوروبية وروسية وصينية وأينما كان. فهذا تنظيم إرهابي تدميري يمتطي قضايا المنطقة العربية لتحقيق مآربه الأيديولوجية والمذهبية. كلّف العرب غالياً عالمياً منذ قيامه بإرهاب 11 أيلول (سبتمبر) ضد البرجين الشامخين في laquo;وورلد ترايد سنترraquo; في نيويورك. إنما مقابل شبه الإجماع الدولي على إدانة أمثال laquo;جبهة النصرةraquo; التي صنّفها مجلس الأمن إرهابية في خضم معركتها ضد النظام في سورية بسبب ارتباطها بـ laquo;القاعدةraquo;، هناك شبه إجماع بين أعضاء مجلس الأمن على غض النظر عن دور laquo;حزب اللهraquo; و laquo;الحرس الثوريraquo; في ساحة القتال السورية بقيادة إيرانية عسكرية. بعض الدول الغربية صنّف الجناح العسكري لـ laquo;حزب اللهraquo; في خانة الإرهاب، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء في مجلس الأمن لا ضد الانخراط العسكري المُعلَن لـ laquo;حزب اللهraquo; في سورية ولا ضد التورط الإيراني المخفي والذي يشكل انتهاكاً صارخاً لقرار مجلس الأمن بموجب الفصل السابع يحظر على إيران مد المعونة العسكرية والسلاح خارج حدودها. هذه المفارقة لها خلفيتها و laquo;مبرراتهاraquo; لدى القائمين عليها طالما انحصر الأمر في ساحة القتال السورية. أما وقد وصلت الحرب بين laquo;حزب اللهraquo; و laquo;الحرس الثوريraquo; من جهة وبين laquo;القاعدةraquo; وأخواتها من جهة أخرى، إلى ساحة لبنان الهشّة والسائبة، فلقد انهار معها ذلك القرار الدولي بتحييد لبنان وإسرائيل عن القتال وبات ضرورياً مطالبة الأسرة الدولية بإجراءات لجم جدية. بات ملحّاً للقوى الإقليمية المعنية إعادة النظر في سياساتها الاستراتيجية والاعتباطية على السواء، فما حدث هذا الأسبوع في بيروت يشكل منعطفاً نوعياً في المعادلة الإقليمية.

الدول الإقليمية المنخرطة في سورية ولبنان هي دول آمنة نسبياً داخل حدودها. فلا حروب أهلية داخلها، ولا هي ساحة حروب بالنيابة عن الآخرين. المآخذ على بعضها أنها تستخدم أمثال سورية ولبنان والعراق ساحة للاستنزاف والمواجهة فيما علاقاتها الثنائية -ظاهرياً- قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخر. باطنياً، الخلاف جذري، مذهبياً وأيديولوجياً وفي إطار موازين القوى الإقليمية والقيادة الإسلامية. علاقاتها بالولايات المتحدة ملفتة، ليس فقط في عصر الشاه عندما كانت إيران الحليف الأول للولايات المتحدة، وإنما أيضاً في عصر الثورة الإيرانية، فالولايات المتحدة لعبت على أوتار الحرب الإيرانية - العراقية والمعادلة السنية - الشيعية، تارة لمصلحة العراق وتارة لمصلحة إيران، ضمن استراتيجية مدروسة ثم أتى الرئيس السابق جورج دبليو بوش ليقدم العراق إلى إيران في إطار حربه على الإرهاب. الرئيس باراك أوباما سار في خطى بوش وهو الآن يود تتويج العلاقة الأميركية - الإيرانية بتوطيد الدور الإيراني الإقليمي في العراق وسورية ولبنان، الذي يشكل في إطار تلك الاستراتيجية الأميركية نقطة الارتباط الإيراني مع إسرائيل. هذه هي السياسة الاستراتيجية التي وضعتها الـ laquo;إستابلشمنتraquo; الأميركية.

كل ذلك الكلام عن تعاون خليجي - إسرائيلي في وجه التوسع الإيراني ليس منطقياً ولا عملياً، فالعلاقة الإيرانية - الإسرائيلية متينة بقدر ما كانت عليه تاريخياً بين الفرس واليهود. لعل هناك حاجة تكتيكية لدى إسرائيل اليوم للجم اندفاع الرئيس باراك أوباما نحو إيران قليلاً كي لا تأتي هرولته بلا تسديد حساب لإسرائيل. ولعل هذه الحاجة تتلاقى مع حاجة الدول الخليجية المعنية إلى أي ما يساعد في laquo;فرملةraquo; إدارة أوباما المهووسة بإيران، إنما هذه محطة تكتيكية يجب ألا تعمي عن الاستراتيجيات البعيدة المدى لأيٍّ وكلٍّ من اللاعبين الإقليميين والدوليين.

ما تلتقي عليه القيادة الأميركية والروسية والصينية والإيرانية والإسرائيلية اليوم سيتلاقى مع مصلحة الحكومة السورية وحليفها laquo;حزب اللهraquo;، وهو القضاء على ما يسمونه التكفيريين والجهاديين والسلفيين. جميعهم بات يعتقد أن عدوّه هو السُنَّة، أميركياً بسبب 11/9/2001، روسياً وصينياً لأن مشكلتهما الإسلامية سنّية، وإسرائيلياً لأن معركتها مع العرب وليس مع الفرس. laquo;القاعدةraquo; وأخواتها أعطت كامل الذخيرة لهذا التجمع بسبب لجوئها إلى الإرهاب استراتيجية ووسيلة، ويمكن اعتبارها الجهة المنفذة عملياً لمصلحة هذا التجمع. والمدهش أن تمويل laquo;القاعدةraquo; ومشتقاتها يأتي عبر قنوات عربية معظمها من أفراد وعائلات توهم نفسها أنها تدافع عن الإسلام والسُنَّة والعرب. وكم هي خاطئة ومؤذية وجاهلة وخاسرة، فمهما laquo;فرّختraquo; من متطوعين، ومهما قامت بعمليات في الساحة العربية أو الساحة الدولية ضد أقطاب هذا التجمع الغريب، فإنها مهما ألحقت الأذى بالآخر تؤذي بالقدر نفسه مَن تزعم أنها تنتصر له.

laquo;حزب اللهraquo; أيضاً يجازف وقد يدفع ثمن عنجهيته على المدى البعيد. هو قد يتباهى اليوم بأنه لاعب إقليمي، عسكري بالدرجة الأولى، في سورية كما في اليمن، كما في لبنان. لا يخفي laquo;حزب اللهraquo; أنه يلعب أدواره الإقليمية نيابة عن إيران وليس نيابة عن لبنان، حيث ينتمي جغرافياً، على رغم ولائه أولاً للجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولا ينفي أنه في معركة مذهبية باعتباره حزباً شيعياً يرى في طهران الفارسية حليفاً وفي الرياض العربية عدواً.

اليوم، يحق لـ laquo;حزب اللهraquo; أن يتباهى بأنه هو الذي قلب المعادلة العسكرية على ساحة الحرب السورية لمصلحة نظام الرئيس بشار الأسد، فلولا معركة laquo;القصيرraquo; التي خاضها laquo;حزب اللهraquo; لما تحوّل النظام إلى منتصر في وجه المعارضة السورية. اليوم laquo;حزب اللهraquo; في جهوزية لترسيخ الموازين العسكرية لمصلحة النظام في دمشق عبر معركة laquo;القلمونraquo; الآتية.

واضح أن laquo;حزب اللهraquo; لا يبالي بما يدفعه لبنان إثر تدفق اللاجئين والنازحين السوريين إليه، من بنيته التحتية، لا يبالي بمدى الثمن الذي يدفعه لبنان اقتصادياً بسبب خوض الحزب المعركة علناً ضد الدول الخليجية ومنعها -عملياً- من القدوم إليه لإنقاذ قطاعه السياحي الضروري. laquo;حزب اللهraquo; واضح في استراتيجيته الهادفة إلى امتلاك لبنان حكومة وقراراً وانتماء، لأنه وصلة مهمة في استراتيجية إيران الإقليمية الممتدة إلى إسرائيل.

عملياً، لقد استدعى laquo;حزب اللهraquo; تنظيم laquo;القاعدةraquo; إلى لبنان بسبب خوضه الحرب السورية. هذا سيف ذو حدّين. ثقة laquo;حزب اللهraquo; بنفسه وبانتمائه إلى التجمع المعارض للتكفيريين قد تنقلب عليه وليس فقط على لبنان. فهو متورط في الحرب السورية حيث يتدرّب على معارك نوعية ويحصل على سلاح نوعي يهرّبه إلى الأراضي اللبنانية، ويعوّل عليه لمحاربة laquo;القاعدةraquo;، وربما إسرائيل أيضاً إذا برزت الحاجة واقتضت الحسابات الإيرانية التكتيكية. لكن انتقال حربه مع laquo;القاعدةraquo; إلى لبنان أيضاً يجعله مضطراً لفتح جبهتين في آن، وربما ثالثة، لأن إسرائيل قد تضطر إلى اتخاذ إجراءات تحميها من الطرفين المتطرفين في جوارها.

ثم هناك مسألة laquo;الاستغناءraquo; التي لطالما لاحقت أولئك الذين راهنوا على الولايات المتحدة. اليوم الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حاجة ماسة إلى رفع العقوبات عنها، ولذلك تغازل الولايات المتحدة -و laquo;حزب اللهraquo; على لسان الأمين العام السيد حسن نصرالله يدافع عن التقارب الأميركي الإيراني، وهو يراهن على التجمع الأميركي الروسي الصيني الإيراني الإسرائيلي لمكافحة laquo;القاعدةraquo; وأمثالها. لكن laquo;الاستغناءraquo; سيطاوله في نهاية المطاف، لا سيما إذا تم التوصل إلى تلك laquo;الصفقة الكبرىraquo;، لذلك هو يغامر ليس فقط بنفسه كـ laquo;لاعب إقليميraquo; وإنما أيضاً بالطائفة الشيعية اللبنانية، لأن استدعاء laquo;القاعدةraquo; إلى لبنان عدواً ستدفع ثمنه الطائفة الشيعية أولاً، وسيكون لبنان كله ضحية عنجهية حزب يمثل أقلية حتى ولو زعم أنه يمثل الطائفة الشيعية.

لبنان بلد الأقليات، ولا توجد فيه أكثرية، لذلك فلتتفضل الدول الغربية التي تزعم أنها تحاكي مصالح الأقليات العربية والأقلية الإسلامية، وتفعل شيئاً قبل فوات الأوان. أول ما عليها أن توضحه هو عمّا في ذهنها نحو لبنان إزاء استدعاء laquo;حزب اللهraquo; لكل من laquo;القاعدةraquo; وإسرائيل إليه عسكرياً، لأسباب مختلفة.

فالسؤال الأهم الذي يتطلب إجابة أميركية بالدرجة الأولى هو: ما هي حدود الانتصار الإيراني في سورية ولبنان والفوز الإيراني بسورية وإيران بعد فوزه بالعراق؟

مفهوم أن الولايات المتحدة تريد البناء على ما تعتقد أنه فرصة تاريخية عنوانها الاعتدال في طهران بصورة الرئيس حسن روحاني، نووياً. إنما ما هي آفاق الدور الإقليمي الإيراني الذي تشرّعه إدارة أوباما، علماً بأن جناحه العسكري المتمثل بـ laquo;حزب اللهraquo; و laquo;الحرس الثوريraquo; يمتد اليوم من سورية إلى لبنان في مواجهة عسكرية مع laquo;القاعدةraquo;. سياسة الإنهاك المتبادل قد تكون تكتيكاً مفيداً للغايات الأميركية، إنما ماذا بعد؟ وماذا تريد دولة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تدير حروب الميليشيات؟

هناك إيران الابتسامة وإيران الحنكة التي تتبنى أسلوب laquo;الجرح بالقطنraquo; لتنفيذ الاستراتيجية بالصبر والمثابرة والبناء على ذاكرة ضعيفة لدى الغرب الذي أوهم نفسه بأن إيران لم تكن يوماً معتدية، متناسياً أدوارها في دعم الميليشيات والتدخل في شؤون الدول المجاورة واحتجاز الرهائن الأميركيين لـ444 يوماً وما يتردد عن أدوارها حتى في صنع التطرف السنّي وأدواته.

الدور العربي في صنع التطرف السنّي لا يقل عن الدور الإيراني، بل يضاهيه، من أفغانستان إلى لبنان، وحان وقت إعادة النظر واتخاذ قرارات حاسمة، إما لجهة التفاهم الخليجي مع إيران أو لجهة إيجاد بديل عن دعم laquo;القاعدةraquo; ومشتقاتها كوسيلة لمواجهة إيران وميليشياتها. الاستدراك في لبنان محطة ضرورية للدول الخليجية المعنية التي لا يفيدها أن تكون راعية لهذا الانزلاق.

أما تلك laquo;الأسرة الدوليةraquo; -الانعزالي منها والفائق الحماس-، فعليها أن تستيقظ وتكف عن الاختباء وراء الإصبع، لأن وصول الحرب السورية إلى لبنان يهدد بحروب إقليمية لن تتمكن حروب الاستنزاف بالنيابة من احتوائها.