توفيق المديني

مع اقتراب الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة التونسية التي فجرت ما بات يعرف بـquot;الربيع العربي quot;، الذي تحول إلى شتاء مظلم، في ظل انعدام تحقيق التحولات الديمقراطية الحقيقية في البلدان العربية التي شهدت سقوط رؤوس الأنظمة العربية مع بقاء البنية التحتية القمعية السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، لتلك الأنظمة، عادت quot;الثورة المضادةquot; إلى تونس، وهذه المرة تقودها حركة النهضة الإسلامية التي تولت قيادة حكومة الترويكا المؤقتة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، ولاسيَّما كتلتها في المجلس الوطني التأسيسي الذي انتخب لمدة سنة واحدة من أجل كتابة الدستور الديمقراطي للجمهورية الثانية في غضون سنة، وفيما بعد يعود النواب إلى بيوتهم، فيما يستمرّ عمل الحكومة المؤقّتة والرئاسة المؤقّتة إلى حين إجراء انتخابات سلطة دائمة رئاسية وبرلمانية.

ولا يكفي أن حركة النهضة لجأت خلال الأشهر الثلاثة الماضية إلى انتهاج إستراتيجية التعطيل للحوار الوطني، بهدف الحيلولة دون تشكيل حكومة كفاءات وطنية تحل محل حكومة الترويكا المؤقتة، التي أثبتت فشلا ذريعاً في إدارة شؤون الدولة التونسية، لاسيَّما في محاربة العنف والإرهاب والاغتيال السياسيّ، ومقاومة الانحدار التاريخي للعجز الاقتصاديّ والتقسيم المجتمعيّ وارتفاع نسبة الكآبة في المجتمع التونسي، وعدم تثوير البحث العلميّ في الجامعات وتالياً تثوير البنى الاقتصاديّة، وتثوير الثقافة، بل إن نواب النهضة أعدوا مؤخرا قانوناً جديداً للأحباس والأوقاف لطرحه على المجلس الوطني التأسيسي، بعد أن اتخذت الدولة التونسية الحديثة في الفترة الفاصلة ما بين 1956 و1958، قرارات غاية في الجذرية الديمقراطية في المجالات المؤسسية والقضائية والثقافية مثل الإلغاء النهائي لمؤسسة الأوقاف والأحباس، وهي من أقوى الهياكل الاقتصادية والمالية التي تعتمد عليها المؤسسة الدينية التونسية ممثلة بالجامعة الزيتونية، وإعلان مجلة الأحوال الشخصية التي تنظم مسائل الزواج والطلاق والتبني والوراثة، وإنهاء دور المجالس الشرعية والمحاكم الدينية المنتشرة في المدينة العربية العتيقة، ومؤسسة الزيتونة التي تحولت بفضل قوانين 1958 إلى مجرد جامع أو مزار سياحي...

فها هي حركة النهضة التي تدعي في خطابها المعلن للغرب أنها مع بناء الدولة المدنية، تكشف بكل وضوح خفايا إستراتيجيتها الباطنية المتمثلة في بناء الدولة الدينية بالتدرج، واستعادة المؤسسة الدينية التقليدية ورموزها الثقافية التقليدية دورها في المجتمع التونسي، عكس ما تعهدت وجاهرت به طيلة المرحلة الماضية، من خلال العودة إلى عملية إحياء مؤسسة الأوقاف والأحباس بعد أكثر من نصف قرن من إلغائها. ذلك أن إعادة سنّ قانون quot;الأحباسquot; أو ما يعرف كذلك بنظام الأوقاف يؤكد توجه الحكومة التي تقودها حركة النهضة نحو تكريس quot;الدولة الدينيةquot; في ظل سيطرة مؤسسات دينية على أملاك كبيرة للغاية، وقد يؤدي ذلك إلى quot;تقنينquot; تمويلات للإرهاب!! كما سيؤدي سن قانون الأوقاف والأحباس إلى تغيير نموذج المجتمع التونسي المنفتح على الغرب، والعلماني، وفرض نموذج مجتمعي جديد تسيطر فيه الشريعة الإسلامية، لكي تعبد الطريق لعودة سلطة القرار إلى الجوامع وquot;فروعهاquot; من مدارس ورياض قرآنية.

من الناحية القانونية، يعني مصطلح quot;الحُبُسquot; أن يضع مالك أرض أو ضيعة أو عقار كل quot;غلّةquot; أو quot;منافعquot; ملكه على ذمة مؤسسة دينية عادة ما تكون جامعا، وهي التي تتصرف في منافع ذلك الملك.. إذ يمكّن قانون الأحباس المزمع سنّه من سيطرة تصاعدية للمؤسسات الدينية على دواليب وشرايين الاقتصاد الوطني ومن ثمّ تتملك رويداً رويدا ًسلطة القرار السياسي؟! وحسب مصادر قانونية أدلت بها لـصحيفة laquo;الشروق التونسية تاريخ 16 نوفمبر 2013 raquo; فإن هناك فرضية أخرى خطيرة للغاية ولا يمكن لأحد quot;التنبؤquot; بعدم تجسيدها وهي أن الأمر سيؤدي إلى quot;تقنينquot; تمويل الإرهاب، إذ سيتمتع هذا التمويل بـquot;غطاء شرعيquot; ولا يمكن لأحد مراقبته أو إيقاف نزيفه.

بعد إنجاز الثورة التونسية، وبعد مصادرة محتوى هذه الثورة من قبل الإسلاميين، تستعيد حركة النهضة من جديد الصراع بين المشروعين العلماني والديني، وهو الصراع الذي كان قائماً منذ فجر الاستقلال. وإذا أردنا أن نتعمق أكثر، فالصراع بين السياسي والديني في تونس يعود في الواقع، إلى ثنائية ازدادت متطلباتها ثقلاً بين الدستوريين والزيتونيين، منذ مرحلة الاستعمار، وهو يعكس صراعاً أيديولوجياً وسياسياً بين الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة الذي اضطلع بدور قيادي للحركة الوطنية التونسية في مقاومة الاستعمار الغربي، وانتزع الاستقلال، وقام ببناء دولة عصرية، وكان له خطاب سياسي ينسجم أكثر فأكثر مع متطلبات التطور، لمختلف قطاعات المجتمع التونسي، وبين الحزب الدستوري القديم بقيادة عبد العزيز الثعالبي الذي كانت تسانده المؤسسة الدينية التقليدية، المتحالفة تاريخياً مع البرجوازية التجارية التقليدية، بحكم التجانس في الانتماء إلى الفضاء الأيديولوجي التقليدي. ومن المعلوم تاريخياً أن الحركة السياسية التونسية، لم تكن حركة تحرر سياسي فقط، بل كانت تمتلك برنامجاً خاصاً للعمل في المجالين الثقافي والاجتماعي مستندة في ذلك إلى تراث الحركة الإصلاحية التحديثية في تونس منذ عهد خير الدين التونسي، ورائد تحرير المرأة العربية التونسية الطاهر الحداد/ الذي جوبه بعداء شديد من جانب المؤسسة الزيتونية التقليدية، والفئات الاجتماعية المحافظة، والقيم والمبادئ المتخلفة في المجتمع التقليدي.

إن الصراع بين النخبة السياسية الإدارية الحاكمة الحاملة لواء التحديث والعلمنة، والنخبة الزيتونية التقليدية هو صراع مجتمعي، وهو صراع بين مشروع مجتمعي تحديثي علماني يجد مرجعيته السياسية والأيديولوجية في الفكر السياسي البورقيبي المتشبع بالأيديولوجية الثقافية الفرنسية، وبالنزعة التحديثية لكمال أتاتورك، والذي يشكل استمراراً تاريخياً لفكر ونهج خير الدين التونسي السياسي الإصلاحي والتحديثي، حيث إن الإستراتيجية التي تبناها الرجلان السياسيان، سعى كل منهما إلى تحييد معارضة المنشأة الدينية في تونس العاصمة بتضمين وتوريط ممثليها في عملية الإصلاحات المؤسساتية، وتقدم هذه الإصلاحات الأوروبية الإلهام بوصفها أفضل منظومة دفاع للأمة الإسلاميةquot;، وبين مشروع النخبة التقليدية المعارض لمشروع التحديث، والذي تتحكم فيه الرؤية السلفية الماضوية التي تركز على ضرورة العودة إلى قيم السلف الصالح. وهذا الصراع بين المشروعين هو في جوهره يعكس الصراع التاريخي والتقليدي على الصعيد العربي بين الأصالة والتحديث، والحال هذه، وضعية الصراع ليست وضعية خصوصية في تونس، ذلك أن القرن التاسع عشر شهد ظهور الحضارة الأوروبية بثورتها الصناعية وبرجوازيتها القومية، كنمط تأثير على حضارات قديمة: اليابان، الصين، تركيا، مصر، التي كانت تعيش حالات من تراكم التخلف وتبحث عن بدائل ملموسة لمجابهة الانحطاط. كما أن هذا الصراع المجتمعي يعكس صراعاً ثقافياً واضحاً يتمحور حول المؤسسات الثقافية والاجتماعية التي تقود المجتمع المدني والسلطة المرجعية لهذا المجتمع المدني الوليد، الأيديولوجيا العلمانية القومية الكلية للنخبة السياسية الإدارية الحاكمة أم المؤسسة الدينية التقليدية كجامع الزيتونة، ومنابر المساجد والمؤسسات الثقافية.. إلخ.

إن الصراع بين الدولة التونسية الجديدة والمؤسسة الدينية التقليدية يعكس في بعده الثالث صراعاً طبقياً مكشوفاً بين فئات الطبقة الوسطى وتعدد مكوناتها الاجتماعية وشرائحها، الأمر الذي أعطى ميزة جيدة لخطابها السياسي القائم على التعددية والتغاير، وبين البرجوازية التقليدية التجارية المتضررة من الغزو الرأسمالي الغربي والتي حاولت أن تكون أكثر وطنية من الفئات الوسطى، حيث كانت المعارضة اليوسفية هي الممثلة السياسية لهذه البرجوازية التقليدية المهيمنة على المؤسسات الثقافية والسياسية، والتي تتكون من شرائح التجار والحرفيين ومؤسسة العلماء من أئمة ووعاظ وأساتذة. ثم إن الصراع بين المشروع التحديثي ومؤسسة العلماء، يعود في أحد أسبابه إلى التحالف القوي الذي كان قائماً بين المؤسسة الدينية التقليدية والبرجوازية التجارية التقليدية لدعم المعارضة اليوسفية. وقد كان الرئيس بورقيبة مدركاً أن العلماء هم الجهاز الأيديولوجي والدعائي للحركة اليوسفية المتصلة في جوهرها بالهياكل الدينية التقليدية، وهكذا يتضح أن الصراع بين بورقيبة وبن يوسف ليس مجرد صراع سياسي كما تتصوره بعض الأطروحات، إنما هو صراع ثقافي بالدرجة الأولى طالما أنه يطرح إشكالية الأصالة ومكانة الإسلام في المجتمعات المعاصرة التي مسها التحول الرأسمالي.