أحمد أبو الغيط: الفلسطينيون والعرب اتهموا السادات بالخيانة بينما كان أصدقهم وأشرفهم وأكثرهم دفاعاً عن الأرض


القاهرة

في كتابه laquo;شاهد على الحرب والسلامraquo;، الذي صدر قبل فترة قليلة عن دار نهضة مصر في القاهرة، وحقق مبيعات واسعة، يستعرض وزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبوالغيط ملامح السياسة الخارجية المصرية، منذ نكسة يونيو العام 1967 وحتى معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979.


ويروي أبوالغيط، والذي كان آخر وزير خارجية في عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، عن أجواء الحرب وكواليس السلام، وكيف حقق الجيش ورجاله مكاسب استراتيجية مهدت الطريق للديبلوماسية المصرية لكي تتفاوض على استعادة الأرض.
ويلقي الضوء، في كتابه على الضغوط التي تعرض لها صانع القرار قبل وأثناء وبعد الانتهاء من حرب أكتوبر، في وقت كانت القوى العظمى تتلاعب بالمنطقة وفقا لمصالحها، فكانت روسيا لا تقدم لمصر السلاح في الوقت المطلوب، وكانت الولايات المتحدة تناور لمنح إسرائيل الفرصة لتحقيق أكبر مكسب، وفي الداخل كان الخوف من تكرار انكسار الجيش مرة أخرى، كما حدث في يونيو 1967.
ويعتبر ان السادات laquo;الذي اتهمه الفلسطينيون والعرب بالخيانة، كان أصدقهم وأشرفهم، وأكثرهم دفاعا عن الأرض حينما تركوه وحيداraquo;.
وفي كتاب أبوالغيط، تفاصيل أخرى تحمل بعضا منها السطور التالية...

bull; مصر طرقت كل الأبواب لحل أزمتها مع إسرائيل سلمياً ولم يتبق لها سوى خيار الحرب

bull; رسالة حافظ إسماعيل إلى كيسنجر بأن مصر لا تريد توسيع المواجهة أثارت لغطاً كثيراً

bull; روسيا مارست ضغوطاً على مصر لوقف الحرب فجاء رد السادات حازماً: سنمضي في المواجهة المسلحة

bull; السادات راح يضغط على أميركا من خلال دول الخليج وبصفة خاصة السعودية

bull; مساء 13 أكتوبر حلقت طائرة استطلاع أميركية في سماء مصر فكانت لها آثار هائلة على تطورات المعركة

bull; في ضوء رفض مصر وقف إطلاق النار قررت أميركا إحداث تغيير جوهري على الأرض يمنح إسرائيل القوة

bull; الموقف العسكري الصعب الذي تعرضت له مصر بعد تدخل أميركا فرض عليها وقف إطلاق النار

bull; السادات انتصر في المفاوضات... وقال: إن مصر على استعداد لإعطاء إسرائيل أي شيء تحت الشمس ما عدا الأرض والسيادة

bull; الأميركيون والإسرائيليون كانوا يعلمون مقدماً أن إسرائيل لا يمكنها الاحتفاظ بأي وجود عسكري أو استيطاني في سيناء

bull; إسرائيل قبلت وقف إطلاق النار لأنها كانت تخشى تعرضها لأخطار كبيرة... إذا استأنفت مصر القتال لتدمير قواتها في laquo;الدفرسوارraquo;

bull; إسماعيل فهمي استقال اعتراضاً على زيارة السادات للقدس لكن كان هناك إصرار على استكمال التفاوض

bull; الوفد الإسرائيلي جاء إلى laquo;ميناهاوسraquo; بخطة سلام لم يطلع عليها عبدالمجيد ففشل المؤتمر

bull; وصول حزب الليكود المتشدد إلى الحكم زاد من إصرار السادات على كسر جمود الموقف

bull; السادات كان يسعى للحصول على دعم اقتصادي غربي كبير في مواجهة انقطاع وتوقف المساعدات العربية

bull; عندما شعر السادات بتعنت إسرائيل في laquo;كامب ديفيدraquo; طلب تحضير حقائب السفر وأعلن انسحابه فجأة

من بين ما ذكر وزير خارجية مصر الأسبق، أنه لم يصدق السرعة التي تم بها العبور، والتقارير الواردة إلينا من الجيش تقول إن وجود القوات حاليا هو في حدود 2000 ياردة... وتقديري أنه يجب توسيع العمق وإلا فسيهدد العدو رأس الكوبري.. رد فعل العدو لن يأتي إلا غدا الأحد أو حتى الاثنين 8 أكتوبر.. الجميع بدأ يستشعر التفاؤل، وكان مستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل، الذي كنت أعمل إلى جواره، على اتصال دائم بالرئيس السادات لإخطاره بتطورات الوضع الدولي، خاصة الموقف الأميركي... كانت الأحداث متلاحقة، والعالم لا يصدق إقدام مصر وسورية على البدء بضربة عسكرية لإسرائيل... ومرّ يوم السادس من أكتوبر بنجاح فاق التوقعات لا في حجم الإنجاز فقط، ولكن في نسبة الخسائر أيضا، واتصل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر بوزير الخارجية محمد حسن الزيات الموجود في نيويورك، يطالب بعودة قواتنا إلى غرب القناة، وكأن شيئا لم يكن! مهدِّدا بعواقب ضارة على مصر إذا استمرت عملياتها العسكرية.
ويكمل: laquo;قبل الحرب طرقت مصر كل الأبواب لحل أزمتها مع إسرائيل سلما، وقبل السادات وساطة تشاوشيسكو رئيس رومانيا، وأوفد مستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل للتشاور مع رئيس يوغوسلافيا جوزيف بروز تيتو في فرص تسوية سلمية دون حاجة لحرب، وباءت تلك الجهود بالفشل، وأحبطت أميركا محاولة مصرية لطرح تسوية مع إسرائيل أمام مجلس الأمن في يوليو 1973.، حينما صوتت بالفيتو ضدها مقابل 14 صوتا مؤيدا. ولم يكن أمام مصر سوى الحربraquo;.
ويتذكر أبو الغيط laquo;كان الأميركيون وفق إحدى الوثائق الأميركية في أبريل 1973- يتابعون التحضيرات المصرية للحرب، حيث تشير الوثيقة إلى laquo;رصد نوايا عدوانيةraquo;، ومن بينها laquo;تحريك بطاريات صواريخ سام 6 المضادة للطيران من أسوان والمناطق المحيطة بها في الربع الأول من عام 1973 إلى مسافة 30 كم من قناة السويس وإلى الغرب منها، ونقل نحو 30 مقاتلة قاذفة من طراز laquo;ميراج - 5raquo; الفرنسي (التي كانت ليبيا قد عقدت صفقة لشرائها عام 1969) ووصول 16 طائرة قتال قديمة من طراز laquo;هوكر هنترraquo; من العراق بطيارين عراقيين وتدريب المصريين عليها، وبدء استخدام هذه المقاتلات في القواعد الجوية المصرية في أبريل 73raquo;، كان الأميركيون يعلمون بنية مصر في خوض الحرب، لكنهم لم يعلموا متى، فقد حقق الخداع الاستراتيجي والتكتيكي أهدافه بالكامل، حتى أن تقريرا للمخابرات المركزية في مساء 5 أكتوبر 73 استبعد قيام مصر بعمل عسكري ضد إسرائيل، ومع نشوب القتال راحت تقاريرهم تشير إلى أن الحرب ستكون قصيرة الأجل، وستنتهي بهزيمة ساحقة للعرب، ولم تصدق توقعاتهم.

رسالة حافظ إسماعيل


وقال أبوالغيط، إن رسالة حافظ إسماعيل إلى هنري كيسنجر، بعد ما يقرب من 48 ساعة من بدء حرب أكتوبر، أثارت لغطا كثيرا، حيث قال فيها: إن laquo;مصر لا تسعى لتوسيع إطار المواجهة أو تعميقهاraquo;، وفسرها البعض بأنها كشفت نوايا مصر، وأعطت لإسرائيل وأميركا فرصة رسم ردود فعلهما تجاه العمل العسكري المصري، لكن ذلك لم يكن صحيحا، فقد كان الجانب الأميركي وأطراف عربية كثيرة، تتحدث عن احتمال قيام الأردن بفتح الجبهة الأردنية بشكل يزيد من تعقيد الأمور والحسابات مع إسرائيل، وكانت هناك رسائل أميركية تعرب عن خشيتها من تفاقم الوضع، وكانت عمليات سلاح الجو الإسرائيلي تسعى للتعرض للقواعد الجوية المصرية في الدلتا، حتى أنها أسقطت قنابلها على قاعدة جوية قرب مطار طنطا، وكان الرئيس السادات يحاول الإبقاء على خطوط اتصاله مع أميركا وفي نفس الوقت قصر المواجهة مع إسرائيل على الجبهة laquo;المصرية - السوريةraquo; ليستطيع التحكم في إيقاع تحركاته الديبلوماسية والسياسية، من هنا كلف حافظ إسماعيل بأن يُخطر كيسنجر بتلك الرسالة.
مضيفا: ان الجبهة السورية في 8 أكتوبر تعرضت لخسائر كبيرة، حتى أن مصادر سوفياتية راحت تتحدث عن رغبة سورية في وقف القتال، وازداد الموقف سوءا حينما أجبرت إسرائيل الجيش السوري على الانسحاب مرة أخرى من الجولان، في ما بدأت القوات الإسرائيلية نشاطا عاليا ضد الجبهة المصرية في محاولة لاختراق رؤوس الكباري، وفتح ثغرات في دفاعات بطاريات الصواريخ غرب القناة، ولذا كان الضغط الروسي على السادات لإعلان وقف القتال، وتزايد الإحساس بصعوبة الموقف يوم 9 أكتوبر، وأرسل برجنيف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي، رسالة للرئيس السادات يقول فيها: إن سورية ترغب في التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإنه يشجع هذا الاتجاه، بل ويحث السادات على القبول به، خشية استمرار العمل العسكري وتركيزه على سورية وصولا إلى دمشق، إلا أن رد السادات كان حازما بأن مصر ستمضي في المواجهة المسلحة حتى تحقق كامل أهدافها السياسية، ثم بعث مندوبا للرئيس السوري يحدثه عن أهمية الاستمرار في المعركة، مع التحول للدفاع بهدف استنزاف العدو، مع طلب المزيد من العتاد من السوفيات، في إطار الإمداد العسكري، وإشراك الجيش العراقي الذي تحرك ببطء.

ضغوط سوفياتية


وفي 10 أكتوبر، مارس السوفيات ضغوطا هائلة على السادات، لكنه واصل رفضه بحزم، بل واحتد على السفير السوفياتي وهدده بفضح موقفهم، طالبا منه استمرار إمداد مصر بالجسور والمعدات اللازمة لبطاريات الصواريخ، وبجسر جوي عاجل، وكان السادات يستشعر تعرض السوفيات لضغوط أميركية، وكان يخشى أن يستجيبوا لهم في تلك المرحلة، فواصل هو ضغوطه عليهم لإشعارهم بتهديد مصالحهم، ومن هنا قرر السوفيات بدء إمداد الجيشين السوري والمصري وتعويض خسائرهما، لكنهم كانوا يفضلون دعم الجبهة السورية فورا في مقابل تزويد الجيش المصري بما يطلبه ولكن كمرتبة ثانية.
ومع اقتراب المدرعات السورية من الجليل الأعلى، عاد التركيز الإسرائيلي على مفهوم laquo;سورية أولاraquo;، وتقدمت مدرعات إسرائيل نحو دمشق في اختراق عمقه خمسة كيلومترات، وهو ما حتم على القيادة المصرية أن تتجه نحو التطوير ومحاولة الوصول إلى الممرات بسيناء أو السعي للتخفيف عن سورية بعملية برية كبيرة على الجبهة المصرية، وكنا ندرك أن الإسرائيليين سيوجهون جهدهم الأساسي قريبا ضدنا، وكان الرئيس يضغط على أميركا من خلال دول الخليج، خاصة السعودية، وبعث بتحذير إلى كيسنجر بأننا سنضرب المدنيين في إسرائيل إذا استمر ضرب المدنيين في مصر، وكان هذا هو التحذير الثاني.
حسب تقرير للاستطلاع المصري أرسلته العناصر المنتشرة في عمق سيناء وراء خطوط العدو دفعت إسرائيل في 12 أكتوبر بكثير من وحداتها في اتجاه سيناء، وحركت كميات كبيرة من معدات الكباري المنقولة بما يؤشر على نية إسرائيل القيام بمحاولة لعبور قناة السويس، وعرض التقرير على مستشار الأمن القومي حافظ إسماعيل، وكان السؤال هو: كيف يتصور الإسرائيليون أنهم سينجحون في إزاحة القوات المصرية المتمركزة أمامهم في شرق القناة وفي التعامل مع الفرق المدرعة والميكانيكية في غربها؟ إلا أن تلك المعلومات لم تؤثر على قرار السادات بتطوير الهجوم تخفيفا عن سورية.

مطالب كيسنجر


في الرابعة من فجر السبت 13 أكتوبر؛ التقى السادات بالسفير البريطاني الذي نقل إليه رسالة من رئيس الوزراء البريطاني بأن كيسنجر طلب من بريطانيا تقديم اقتراح لمصر، يؤكد على عدم معارضة إسرائيل قرار وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية للقوات المتحاربة إذا ما وافقت مصر، وهو العرض الذي سبق للسفير السوفياتي نقله للسادات ورفضه أيضا، وها هو يرفض هذا المسعى في غياب أفق سياسي متكامل للتعامل مع الصدام وتوابعه السياسية، فقد كان السادات يرى أن إسرائيل تهاجم سورية لهدف سياسي، وليس عسكريا للمساومة في المستقبل، وبالتالي فإن الجبهة الأساسية في المعركة هي جبهة قناة السويس، وهي التي ستقرر نتيجة الصراع.
وبعث حافظ إسماعيل رسالة لوزير الخارجية الأميركي يؤكد فيها أن مصر على استعداد لقبول وقف إطلاق النار، بشرط أن تنسحب إسرائيل إلى خطوط 5 يونيو، ويتم بعدها عقد مؤتمر للاتفاق على سلام نهائي، وأن مصر لا تمانع في وجود دولي محدد في شرم الشيخ للإشراف على حرية الملاحة في مضيق تيران وصنافير، لكن كيسنجر ظل يناور في إجاباته، انتظارا لنجاح إسرائيلي عسكري على الأرض.
وفي مساء السبت 13 أكتوبر حلقت طائرة استطلاع أميركية من طراز laquo;71 SRraquo; فوق الدلتا والقاهرة، وقناة السويس وسيناء ثم عادت إلى القاعدة الأميركية التي انطلقت منها في أوروبا، وكانت الطائرة على ارتفاع عال للغاية لا يمكّن المقاتلات المصرية أو نطاقات الصواريخ المضادة من التصدي لها، وكان لهذا الاستطلاع آثاره الهائلة على تطورات المعركة؛ إذ كشفت الصور الجوية التي قدمها الأميركيون إلى إسرائيل أن وحدات الاحتياط الرئيسة غرب القناة قد عبرت القناة إلى الشرق، بما يعني النية في التطوير، وكشفت هذه الصور أيضا، عن أن غرب القناة قد أصبح خاليا إلى حد كبير من القوات الرئيسة الثقيلة، فتهيأ العدو لتلقي ضربة مصرية جديدة، ودخلت المعركة التي شهدت تطويرا في الهجوم المصري صباح الأحد 14 أكتوبر مرحلة شديدة الحساسية، حيث تكبدت فيه جبهتنا خسائر شديدة وصلت إلى ما بين 220 و250 دبابة ومركبة مدرعة، فتوقف الهجوم في المساء لدراسة الموقف، وأصيب الجميع بالقلق من توقف الهجوم وآثاره على المعركة.

تسوية مقترحة


وطرح السادات يوم 16 أكتوبر في مجلس الشعب رؤية مصر للتسوية المقترحة، مؤكدا أننا على استعداد لقبول وقف إطلاق النار على أساس انسحاب إسرائيل من كل الأراضي المحتلة فورا وتحت إشراف دولي، وأننا على استعداد لحضور مؤتمر سلام دولي بالأمم المتحدة، من أجل وضع قواعد سلام يقوم على الحقوق المشروعة لكل الشعوب، وكشف رد أميركا عن وجهها القبيح؛ فقد أكد كيسنجر أن الرؤية المصرية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال حرب ممتدة، وأن الإصرار على الحد الأقصى للرؤية المصرية يعني استمرار الصدام المسلح، وتعرض كل النجاح المصري المحقق للتآكل، وركز كيسنجر على مطلب وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية مع ضمان موافقة الأطراف المتنازعة على بدء مفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة لإقامة سلام شامل وعادل على أساس القرار 242، وقام الأميركيون بإمداد إسرائيل بكثير من المعدات لتعويض خسائرها في الأيام الأولى للحرب، وكان واضحا أن أميركا قررت، في ضوء رفض مصر لوقف إطلاق النار، إحداث تغيير جوهري على الأرض يمنح إسرائيل مركز قوة.
وزار رئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كاسيجين مصر وعاد لبلاده يوم 19 أكتوبر وانتهت الزيارة بالاتفاق، على أن يقوم السوفيات بتحرك مشترك مع الأميركيين لوقف إطلاق النار مع بدء انسحاب إسرائيل فور وقف إطلاق النار تنفيذا للقرار 242 والحصول على ضمانات أميركية - سوفياتية لتنفيذ كل عناصر هذا التفاهم، وكانت معلومات غرفة القيادة المصرية تؤكد تزايد القوات الإسرائيلية في سيناء، وقيام العدو باختراق بعض النقاط والدفع بقوات برمائية عبر البحيرات المرة في مواجهة منطقة الدفرسوار ومهاجمة الضفة الغربية للقناة بهدف تدمير معابر قواتنا وبطاريات الصواريخ المضادة للطائرات التي تعوق حركة مقاتلاته القاذفة في التصدي لقواتنا، وواجهت القوات المصرية كل محاولات إسرائيل بشراسة، لكن العدو نجح في إحداث ثغرة الدفرسوار.
يوم الأحد 21 أكتوبر حضر أشرف مروان للقاء حافظ إسماعيل في الثانية فجرا، واصطحبه إلى الرئيس، ثم عاد بعد فترة وجيزة وطلب مستشار الأمن القومي من وكيل المخابرات العامة رفعت حسنين أن يستدعي ممثل المخابرات المركزية بالقاهرة لإرسال رسالة إلى كيسنجر بموافقة مصر على وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية وعقد مؤتمر سلام فوري بضمان أميركي- سوفياتي لتحقيق وقف القتال وانسحاب إسرائيل، وكان واضحا أن الموقف العسكري الصعب قد فرض هذا القرار.

تصفية الثغرة


وكلف الرئيس السادات -رغم موافقته على وقف إطلاق النار- الفريق سعد مأمون بتصفية الثغرة إن لم تستجب إسرائيل للانسحاب منها، وبعد ظهر يوم 21 أكتوبر أرسل الطرفان الأميركي والسوفياتي لمصر موافقتهما على مشروع قرار سيتقدمان به إلى مجلس الأمن يتضمن مطالب مصر، وانعقد مجلس الأمن فجر الأحد 22 أكتوبر، وأصدر قراره الشهير رقم 338، وتم إعلان ساعة وقف إطلاق النار في السابعة من مساء ذات اليوم، بينما أكدت المعلومات الواردة من الجبهة أن الفرقة 16 على الحد الأيمن للجيش الثاني، والتي تحملت صدمة الاختراق الإسرائيلي، ومعها الفرقة 21 حققتا ومعهما اللواء المدرع 14 من الفرقة 21 بعض النجاح واستعادوا بعض الأوضاع.
كالعادة لم تلتزم إسرائيل بقرار وقف إطلاق النار، ودفعت بقواتها يومي 23 و24 أكتوبر لتصل لميناء الأدبية جنوب السويس، وحاولت دخول السويس وحصار المدينة وفرقتي الجيش الثالث من شرق القناة، واستمرت المعارك يومي 24 و25 أكتوبر لتأمين فرق شرق القناة ومدينة السويس، وزادت وتيرة الاتصالات المصرية مع الجانبين الأميركي والسوفياتي، وطرحنا الأمر على مجلس الأمن، وصدر القرار الجديد 339 لإلزام إسرائيل باحترام وقف إطلاق النار، واستشعر السوفيات أن أي نجاح إضافي لإسرائيل أو أي فشل مصري ستكون له عواقبه الخطيرة على الصورة السوفياتية، ومن ثم تدخل برجنيف بحدة مع نيكسون، معربا عن نيته التدخل للفصل بين القوات، واستجاب الأميركيون للتحدي شكليا، وأعلنوا حالة الاستعداد للقوات الأميركية عبر العالم، واضعين في اعتبارهم أن تجاوز إسرائيل للحدود المرسومة قد يهدر فرصة تاريخية في أن تمسك أميركا بزمام الموقف في الشرق الأوسط وتحوله إلى صالحها.
وفي صباح السبت 27 أكتوبر وافقت مصر على إيفاد ضابط برتبة لواء إلى النقطة 101 على طريق السويس للاجتماع مع ضابط إسرائيلي لبحث تفاصيل تنفيذ قراري مجلس الأمن 338 و339، وكذلك اقتراح إيقاف القتال كلية يوم السبت 27، وأكدت مصر أنه سيصحب الوفد المصري إلى الاجتماع فوج إداري لسيارات تموين للجيش الثالث ومدينة السويس حمولة 60 طنا كإمداد للجيش الثالث، والتقى اللواء عبدالغني الجمسي رئيس هيئة العمليات مع الجنرال أهارون ياريف.

وقف العمليات


وتم يوم 28 أكتوبر 1973 وقف العمليات العسكرية، بعد أن حققت الحرب أهداف السياسة، وصدّق الرئيس على بدء المحادثات في الكيلو 101 وبسرعة شديدة لتأمين عدم تعرُّض الجيش الثالث للخطر، وأراد الجانب الإسرائيلي الحصول على قتلاه داخل مواقعنا وتبادل الجرحى والأسرى، ورد اللواء الجمسي بأن موضوع الأسرى مرتبط بعودة إسرائيل إلى نقاط التراجع التي يمكن للطرفين الاتفاق عليها باعتبارها تمثل خطوط 22 أكتوبر، وطالب الجانب الإسرائيلي بتمثيل سياسي في المحادثات للبدء في مناقشة تفاصيل الفصل بين القوات وبحث فض الاشتباك بينهما، فتمت ترقية اللواء الجمسي إلى مساعد وزير حربية ليمكنه التفاوض سياسيا وعسكريا، وكُلف الجمسي بعرض المفهوم المصري لفكّ الاشتباك، والمتمثل في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من غرب القناة وصولا إلى خط جديد شرق الممرات الرئيسة في عمق سيناء وذلك في مقابل السماح بتبادل الأسرى والجرحى والبحث عن القتلى ورفع اليد المصرية عن باب المندب والبدء في تطهير قناة السويس وعقد مؤتمر السلام.
رغم الوجود الإسرائيلي العسكري غرب قناة السويس، كانت القيادة تعي أنها قد حققت إلى حد كبير الأهداف الاستراتيجية للحرب؛ إذ فرضت على الولايات المتحدة وإسرائيل حتمية التعامل مع المطالب المصرية في تحريك عملية تفاوضية، كما كانت القيادة تقدر، وبدقة أيضا، أن الجانب الإسرائيلي سيتعرض لأخطار كبيرة إذا قررت مصر استئناف القتال وفرض فتح طريق بالقوة إلى مدينة السويس ومن خلفها قوات الجيش الثالث أو قوات بدر الموجودة في مواقعها بشرق القناة.


.. ويكمل وزير خارجية مصر الأسبق أحمد أبوالغيط، مذكراته، وهنا ينقلنا إلى ما بعد حرب 6 أكتوبر.
وكتب يقول: laquo;دخل النزاع العربي - الإسرائيلي مرحلة جديدة مع زيارة الرئيس الأميركي نيكسون للقاهرة في أبريل 1974، وأوحت الزيارة بطيّ صفحة وبدء صفحة جديدة، وهو ما ظهر في ما بعد في زيارة الرئيس السادات للقدس العام 1977، حينما حبس العالم - بما فيه الإسرائيليون - أنفاسه، واستقال وزير الخارجية إسماعيل فهمي اعتراضا، لكن السادات أصر على استكمال التفاوض، واستعادة الأرض بعد جمود استمر لنحو 4 سنوات.. وعلى الإمساك بكل خيوط العملية السياسية والتفاوضية وعدم إعطاء الفرصة لإسرائيل للهروب من ضغوطها، خصوصا أن المجتمع الدولي في غالبيته عبّر عن دعمه القوي للمبادرة المصرية ودوافعها.
قرر السادات الاستعانة بكل الديبلوماسيين القادرين على التعامل مع العقليتين الأميركية والإسرائيلية قانونيا وسياسيا، والمؤيدين في نفس الوقت لفكرة التفاوض مع إسرائيل لاستعادة الأرض، فطلب حضور الدكتور عصمت عبدالمجيد، مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة إلى القاهرة فورا لرئاسة وفد مصر، وكذلك مؤتمر السلام التحضيري بالقاهرة، الذي عُرف في ما بعد بمؤتمر ميناهاوس - إشارة إلى الفندق الذي عُقد به يوم 15 ديسمبر 1977.
وتقرر تشكيل مجموعة عمل صغيرة من الديبلوماسيين المصريين، المعروفين بالكفاءة والكتمان، للعمل تحت رئاسة مدير مكتب وزير الخارجية وقتها الدكتور أسامة الباز، للمساعدة في إدارة ملف مؤتمر جنيف للسلام، وضمت المجموعة كلا من السفراء مدير التخطيط السياسي عبدالرؤوف الريدي، ومدير الإدارة القانونية نبيل العربي، وأحمد الزنط بإدارة المعلومات، ومدير الهيئات الدولية عمرو موسى، وسكرتير أول بمكتب وزير الخارجية حسين حسونة، ومحمد البرادعي السكرتير الخاص للوزير إسماعيل فهمي والمقرب جدا منه، وبعد حضور الدكتور عصمت عبدالمجيد ضم للمجموعة كلا من أحمد أبوالغيط، وصلاح الهنداوي اللذين عملا معه في نيويورك.

مؤتمر ميناهاوس


بدأ الإعداد لمؤتمر ميناهاوس بكل دقة حتى لا تغيب التفاصيل، ودُعي له كل من الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وإسرائيل، والأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسورية، ولبنان، والاتحاد السوفياتي، ورُفعت أعلام هذه الأطراف، لكن لم يحضر سوى الأطراف الثلاثة الأولى فقط وغاب السوفييت، ورفض العرب تلك الخطوة التي عادوا لها بعد ذلك بسنوات طويلة فقدوا خلالها كثيرا من أوراق الضغط.
فور وصول الوفد الإسرائيلي طلب رئيسه إلياهو بن إليسار، لقاء رئيس الوفد المصري الدكتور عصمت عبدالمجيد، وجلس الإسرائيلي مشدودا، ثم فتح حقيبة مستنداته وأخرج ملفا كبيرا وقال إنه يسعده أن يقدم هذا المشروع لاتفاقية سلام مقترحة من قبَل إسرائيل إلى مصر، فنظر إليه عصمت عبدالمجيد ببرود شديد وقال له إن عليه إعادة الملف إلى حقيبته وإنه غير مخوّل بتسلم أي وثائق من الجانب الإسرائيلي لأن هدف المؤتمر التحضيري هو الإعداد للشق التنظيمي والإجرائي للعودة إلى اجتماع السلام امتدادا لمؤتمر جنيف، وليس مناقشة مضمون أو محتوى السلام laquo;المصري - الإسرائيليraquo; أو أي معاهدة laquo;إسرائيلية - مصريةraquo; للسلام... وفشل مؤتمر ميناهاوس.
إصرار السادات على فكّ جمود الموقف يرجع إلى أنه كان يستشعر تراجع المساندة العربية للاقتصاد المصري بعد الحرب، وأكدت له مظاهرات 18 و19 يناير حالة الاستنفار في المجتمع المصري والحاجة لتسريع برامج التنمية الاقتصادية لحماية الجبهة الداخلية، إضافة إلى سبب آخر يتعلق بالعدو ذاته ألا وهو وصول حزب الليكود أكثر الأحزاب تشددا في إسرائيل إلى الحكم برئاسة مناحم بيجين، وهو مؤشر على التشدد والاتجاه نحو اليمين لأول مرة في إسرائيل منذ إنشائها العام 1948.

جدول الأعمال


بدا أن الجانبين، المصري والإسرائيلي، لن ينجحا بمفردهما في التوصل إلى اتفاق على جدول للأعمال يفتح الطريق أمام بدء المفاوضات في إطار اللجنة السياسية بالقدس، وشعر الأميركيون بحتمية التدخل حتى لا تضيع فرصة تسوية سلمية نهائية بالمنطقة، واقترح وزير الخارجية الأميركي سيروس فانس زيارة القدس لبحث مسألتين أساسيتين مع الطرفين المصري والإسرائيلي هما: الاتفاق على خطوط استرشادية للتفاوض على ترتيبات للضفة الغربية وغزة لفترة 5 أعوام.
وكذلك إعلان مبادئ للتسويات بين العرب وإسرائيل، واقترح أن يتم ذلك من خلال إعلان مبادئ حاكم للمفاوضات. وبدأت الاجتماعات تحت رعاية أميركية، وكانت اللجنة العسكرية laquo;المصرية- الإسرائيليةraquo; بدأت أعمالها في 11 يناير 1978، ورأس الجانب المصري الفريق أول محمد عبدالغني الجمسي والجانب الإسرائيلي عيزرا فايتسمان وزيرا الدفاع في البلدين.
وكشفت الاجتماعات عن تباعد رؤى الطرفين؛ فأصرت إسرائيل على التمسك باستخدام قواتها الجوية للقواعد في سيناء وبقاء المستوطنين، ووصل الأمر لحد طرح فايتسمان بأنهم يطلبون ضمانات من خلال السيطرة على هذه المطارات والمستوطنات، وذلك لعدم ثقتهم في الأجيال المصرية القادمة. وهو ما سفّهه الفريق الجمسي وقتها ورفضه شكلا ومضمونا، مؤكدا عدم الاستعداد تحت أي ظرف للقبول ببحث مسألة الأمن من خلال التنازل عن أراضٍ أو السماح بالوجود على الأرض المصرية بأي شكل من الأشكال، وأن الأطروحات الإسرائيلية تعكس الميول التوسعية لإسرائيل، وهو أمر مرفوض بالكامل.
وفشلت تلك المفاوضات أيضا بسبب التعنت الإسرائيلي، وعاد الوفد المصري من القدس، وحضر وزير الخارجية الأميركي لمصر ودعا السادات لزيارة واشنطن في 4 فبراير 1978، وهو ما قبله السادات الذي ظن به البعض تنازلا عن مواقف، لكنه كان يسعى للحصول على دعم اقتصادي غربي كبير في مواجهة انقطاع وتوقف المساعدات العربية الاقتصادية لمصر، وأمضى الرئيسان الأميركي والمصري يومي 3 و4 فبراير في منتجع كامب ديفيد يتشاوران حول ما يمكن الاتفاق عليه، وأدرك السادات أن الجانب الإسرائيلي لا يريد التحرك، وأنه لن يستطيع إحراز تقدم من دون المساعدة الأميركية لتسهيل تحريك المفاوضات، وانتهت المشاورات باستعداد الولايات المتحدة للتقدم بمقترحات لتحريك الموقف، ما يتطلب من الجانب المصري استمرار المفاوضات مع إسرائيل، وتوفير الفرصة للولايات المتحدة للمزيد من الاتصالات مع الجانبين للتعرف على مواقفهما، للتدخل من جانبها والتقريب بينهما.
وحققت الزيارة أهدافها إلى حد كبير، ونجحت في توطيد العلاقة laquo;المصرية - الأميركيةraquo;، وتوصل الجانبان خلالها إلى تفاهم تفصيلي تقوم الولايات المتحدة بمقتضاه بطرح مقترح متكامل ومشروع شامل للتسوية وإطارها الذي ينبغي عندئذ للأطراف التفاوض على أساسه، كان التحرك laquo;المصري - الأميركيraquo; المشترك يفترض قيام الأميركيين بدعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي ومواجهته بالموقف وبالحاجة لإظهار المرونة من جانبه، وقد حكمت تفاهمات واشنطن في فبراير 1978 وإلى حد كبير الصياغات والمفاهيم التي جاءت بها الولايات المتحدة في الشهور التالية وصولا إلى كامب ديفيد الثانية في سبتمبر 1978.

جولة مفاوضات لندن


وطرح الأميركيون فكرة عقد جولة جديدة من المفاوضات في لندن خلال الأسبوع الأخير من يونيو، كان الأميركيون يستشعرون ضغوط احتمالات المواجهة laquo;الأميركية - الإسرائيليةraquo; إذا ما قدمت الولايات المتحدة طرحا غير مواتٍ للمصالح الإسرائيلية، من هنا جاءت رغبتهم، في عقد اجتماع ثلاثي ليشرح كل طرف منطلقاته وأهدافه، إلا أن وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل عارض عقد ذلك المؤتمر بسبب الموقف الإسرائيلي السلبي، الذي تضمن موافقة إسرائيل على بحث طبيعة العلاقة المستقبلية مع الفلسطينيين في نهاية الأعوام الخمسة التي تمثل المرحلة الانتقالية، ما اعتبره كامل مراوغة إسرائيلية لعدم الإفصاح عما سيكون عليه الوضع النهائي للضفة وغزة، إلا أن السادات وافق على عقد اجتماع لندن رغم اعتراض وزير الخارجية، وأوضح السادات لكامل وللأميركيين أنه لن يوافق إلا على هذا الاجتماع الوحيد ثم تبدأ عملية تنفيذ السيناريو laquo;المصري - الأميركيraquo; المتفق عليه، وفي الاجتماع داخل قلعة ليدز جنوب لندن يومي 18 و19 يوليو، طرح موشى ديان رؤية إسرائيل لكيفية تمكين الفلسطينيين من حكم أنفسهم عبر انتخابات لتشكيل مجلس فلسطيني للحكم الذاتي ومرحلة انتقالية تالية مدتها 5 أعوام تعود بعدها الأطراف للمزيد من المفاوضات حول عناصر التسوية، وهو ما رفضه الوزير إبراهيم كامل في كلمته.
وبعده أكد أسامة الباز أن مصر تستهدف إشراك الفلسطينيين في المفاوضات مع إسرائيل، كما أنها تصمم على ضرورة أن يكون مفهوم التسوية واضحا منذ البداية ومع بدء المرحلة الانتقالية ومدتها أيضا طبقا لرؤية مصر 5 أعوام، لتنتهي بإنشاء دولة فلسطينية يكون لها ارتباط متفق عليه مع الأردن، مع التأكيد على حُسن علاقات الجوار بين الدولتين.
كما نوقشت ترتيبات الأمن المقترحة بين مصر وإسرائيل، وكانت تدور حول الموافقة المصرية على إقامة مناطق منزوعة السلاح على الجانبين المصري والإسرائيلي وإنشاء محطات إنذار مبكر على جانبي الحدود وتدار من قبَل طرف ثالث، إضافة إلى إمكانية النظر في إقامة مناطق محددة التسلح بكمياته وأنواعه، وأخيرا اعتراف مصر بأن مضيق تيران يُعتبر ممرا دوليا للجميع حق الملاحة خلاله، وامتدت المناقشات في اليوم التالي لوضعية القدس، حيث أصر الجانب المصري على سيطرة الفلسطينيين أو الدول العربية على القدس الشرقية لتبقى المدينة موحدة وتدار من خلال مجلس أعلى طبقا لمقترحات وتفكير laquo;الساداتraquo; في الموضوع.

لقاء الإسكندرية


في اجتماع آخر بين الرئيس السادات والمبعوث الأميركي أثرتون في 30 يوليو العام 1978 في الإسكندرية وحضره وزير الخارجية المصري، قال السادات، الذي اتهمه الفلسطينيون والعرب بالخيانة، بينما كان أصدقهم وأشرفهم، وأكثرهم دفاعا عن الأرض حينما تركوه وحيدا، للمبعوث الأميركي: laquo;إن ما يريده الإسرائيليون هو الأرض والأرض فقط... ولكي نقنع إسرائيل بالتخلي عن أطماعها، عرضنا عليهم الترتيبات الأمنية الستة التي تحدثت بها مع فايتسمان، ذهبت إلى أبعد مدى وعرضت عليه الموافقة على عقد حلف عسكري بين أميركا وإسرائيل في مقابل تخليها عن أطماعها الإقليمية وفي الأرض، لن أجلس مع الإسرائيليين على أي مستوى إلا إذا كان هناك تسليم بأن الأرض التي احتُلت العام 1967 لا يمكن أن تكون محلا لأي تنازل. إن مصر على استعداد لإعطاء إسرائيل أي شيء تحت الشمس ما عدا الأرض والسيادة. بل إنني مستعد لإعطائهم المياه لري منطقة في النقب مقابل كل مستوطنة ينسحبون منها في الضفة الغربية بحيث يكون مسلَّما به أن إسرائيل ستبقى في حدودها ولا تتوسعraquo;.

استراتيجية المرحلة


هكذا حدد السادات استراتيجية المرحلة التالية التي تستدعي قيام أميركا بالإعلان عن إطار عام يحكم عناصر التسوية، ثم التفاوض بعد ذلك بين الأطراف على تنفيذ كل بنود هذا الإطار، وفي الخامس من سبتمبر وصل الرئيس السادات ومرافقوه لمنتجع كامب ديفيد، ثم عُقد الاجتماع الثلاثي على مستوى القمة مساء الخميس 7 سبتمبر، وكان لقاء حادا، فقد رفض مناحم بيجين المقترحات المصرية سواء إنهاء الوجود الإسرائيلي الاستيطاني في سيناء أو الانسحاب من القواعد الجوية العسكرية بها، وطرح بيجين بعض الأفكار التي يمكن من خلالها تحقيق بقاء المستوطنين على الأرض المصرية.. ورفض السادات بحزم كل هذه الأطروحات، وتكهرب الموقف.
رُفع الاجتماع، وجرت عدة مشاورات، ثم صمت لمدة 6 أيام، ثم قدم الأميركيون وثيقتهم التي تتضمن مقترحاتهم بشأن التسوية صباح الاثنين 11 سبتمبر للفريق المصري، وتضمنت الوثيقة النص الأميركي لمقترح تحت اسم laquo;إطار للسلام في الشرق الأوسط ووفق عليه في كامب ديفيدraquo;، وتضمن المقترح ديباجة قريبة للغاية مما جاء في ما عرضته مصر يوم 6 سبتمبر مع وضوح إشارات محددة، مثل عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة وأن السلام يقتضي إقامة علاقات طبيعية بين الأمم بما فيها الاتفاق على ترتيبات للأمن، ثم ينقسم الإطار أو الوثيقة بعد الديباجة المستفيضة إلى قسمين، أحدهما خاص بإسرائيل ومصر والآخر بشأن الضفة الغربية وغزة، وكان الملاحظ أن الجزء الخاص بمصر وإسرائيل قد خلا من الكثير من التفاصيل حول الانسحاب والخروج من المستوطنات أو المطارات مع الاعتراف بسيادة مصر الكاملة حتى حدودها الدولية مع فلسطين تحت الانتداب، وكذلك إقامة سلام كامل بين البلدين، وفي القسم الخاص بالضفة الغربية وغزة وضح أن الأميركيين يرغبون أن تتفاوض مصر وإسرائيل حول مستقبل التسوية الفلسطينية في كل عناصرها وأن الحل المستهدف يجب أن يعترف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين وتمكينهم من المشاركة في تقرير مستقبلهم، ويستمر المقترح الأميركي في تبني فكرة المرحلة الانتقالية التي مدتها خمسة أعوام وتمكين السكان من الحكم الذاتي الكامل، ووضح أن التركيز ينصب على تحمل مصر لمسؤوليات المفاوضات إذا ما غاب الأردن عنها.

تطمينات وتسوية


وبينما كنا نسير -أحمد ماهر وأنا- مع الوزير إبراهيم كامل، يوم 13 سبتمبر، إذا بالرئيس الأميركي كارتر يظهر وهو يستقل إحدى الدراجات ومرتديا بنطلونا جينز، ووقف ليتحدث مع الوزير إبراهيم كامل وأخذ الرئيس الأميركي يحاول طمأنة وزير خارجية مصر وأن ما يسعى للقيام به هو التوصل إلى تسوية شاملة تعطي الفلسطينيين حقوقهم على مدى زمني محكوم، وقال إنه ينوي دعوة الأمير فهد وسعود الفيصل والملك حسين إلى واشنطن فور انتهاء أعمال القمة للحصول على تأييدهما للاتفاق، وكان حديث كارتر يعكس -في تقديري- قدرا كبيرا من الثقة في قدرته على إقناع هذه الأطراف العربية بقبول الاتفاق ومباركته، وأوضح كارتر رغبته في تجنيب الرئيس السادات عبء أي تسوية خاصة بالقدس، وأنه ينوي إخراجها من أي مشروع إطاري سيتم التوصل إليه خلال مفاوضات كامب ديفيد، وأخذ إبراهيم كامل يجادل كارتر في أفكاره الأساسية وأن كلا من الأمير فهد والملك حسين لن يشاركا في أي جهد إلا إذا وثقا أنه يتم نتيجة لاتفاق عادل يحفظ للفلسطينيين حقوقهم، وأنه لا يرى أن الاتفاق المقترح يحقق هذا العدل المطلوب للفلسطينيين، وأنه إذا ما رغب كارتر فعلا في تحقيق انفراجة laquo;عربية- إسرائيليةraquo; فعليه أن يعدّل بعض الأفكار الواردة بالاتفاق الإطاري أو أن يعيد تضمين أفكار أسقطها الإسرائيليون.
واتضح أن الموقف في 14 سبتمبر أخذ يزداد حساسية لتصميم الجانب الإسرائيلي على عدم تقديم أي تنازلات، وهو ما دعا الرئيس السادات إلى الإعلان يوم 15 سبتمبر عن نيته الرحيل لواشنطن، وبمجرد علم الجانب الأميركي سارع سيروس فانس إلى زيارته في مقره، وأصر السادات على قراره، وبعد دقائق جاء كارتر مهرولا لمقر السادات وأمضيا معا ما يقرب من 40 دقيقة، وأقنعه بالبقاء ليوم أو يومين آخرين مع وعده ببذل كل الجهد لتحقيق مطالب مصر، وقال السادات لفريقه التفاوضي إن كارتر كان مأخوذا من قراره وانه أبلغه أن ذلك سيؤدي إلى خسارته الانتخابات الأميركية المقبلة، وقد كشفت المصادر والكتابات الأميركية في السنوات التالية لكامب ديفيد أن كارتر قال للرئيس السادات إنه بانسحابه عليه ألا يتوقع أي مساندة في مستقبل الأيام من كارتر، كما أن هذا الفشل في كامب ديفيد سيؤدي إلى توتر الموقف بين مصر وإسرائيل ولن تستطيع أي جهود أميركية تجاوز هذا التوتر الذي قد يقود إلى حرب جديدة، وكان السادات -بعد أن تبين له الصعوبات التي تواجهه بسبب التعنت الإسرائيلي- يريد أن يحصل على دعم أميركي كامل لمطلبه في قيام أميركا بتنفيذ رؤيتها المحددة في ما يتعلق بسيناء وضرورة إخلائها بالكامل وتسليمها للسيادة المصرية.
وبالفعل تم خلال يومي الجمعة والسبت 15 و16 سبتمبر 1978 التوصل إلى تفاهم نهائي حول إطار السلام وشكل التسوية، تضمن أساسا الاتفاق على قيام الجانب الإسرائيلي، فور العودة إلى إسرائيل وخلال 15 يوما، بطرح مسألة انسحاب إسرائيل بالكامل من سيناء وإخلاء المطارات والمستوطنات على الكنيست للتصويت، وقبول الرئيس السادات لهذا المخرج للأزمة في مقابل موافقته على إطار السلام المقترح في شقّه الخاص بسيناء والضفة الغربية وغزة، شريطة تصديق الكنيست على هذا التفاهم، أخذت أفكر مليا في الموقف، وأتساءل: كيف استطاع الأميركيون إقناع الإسرائيليين بقبول الخروج الكامل من سيناء وإخلاء المستوطنات والمطارات رغم أن موشي ديان كان قد أكد للرئيس السادات منذ يوم واحد، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن الأميركيين والإسرائيليين كانوا يعلمون منذ البداية أنه لن يمكن لإسرائيل الاحتفاظ بأي وجود عسكري أو استيطاني في أراضي مصر تحت أي شكل أو وضعية... إلا أنهم كانوا يرغبون في الحصول على موافقة السادات بالنسبة للإطار الخاص بالضفة الغربية وغزة، من هنا قابل ديان الرئيس السادات لكي يحبطه ويدفع به لتصعيد الموقف، ثم يأتي كارتر لكي يبلغه أنه سيفرض الانسحاب على إسرائيل من سيناءraquo;.