حسن الكعبي

تشكل المصدات الاجتماعية الحجر الأساس في ايقاف عجلات النقد التي تحاول استكشاف إشكالية التخلف التي انتجت هويات فرعية متقاتلة او هويات قاتلة على حد تعبير امين معلوف عملت على تشتيت الهوية الانسانية الكلية او الجزئية الوطنية الموحدة بحيث انها اشتقت رقعة داخل الجغرافية الواحدة وعاشت منعزلة عنها في الآن ذاته ، بشكل يجعلها متضايفة مع سياقها وغير مندمجة معه وهو ما يدفع الى نموذج انعدام مفهوم المواطنة بطابعه الانساني او الجغرافي وظهور النزعة الفردانية،لكن إغفال الاجتماعي الذي اتخذ صفة الايديولوجي سيدمغ النقد بطابع المراوغة الجبانة التي من شأنها تجريد النقد من طابع المكاشفة كأبرز ميزة من مميزات النقد الجديد او بشكل ادق النقد الثقافي الذي اخذ على عاتقه مهمة الكشف عن الانساق ودورها الفاعل في صناعة مسارات المجتمع وصناعة هويته وعقائديته المتصلبة التي لاتتقبل الآخر، الا بوصفه آخر يجب الغاؤه او تصفيته فعليا ورمزيا وفي احسن الاحوال ادماجه قسريا في منظومة الانا او النحن المحتفية بيقيناتها.

ان اشكالية الاجتماعي ببطانته الايديولوجية المؤسسة لسردية الهوية الصلدة هي ناتج استشارة التاريخ والوقوف عنده وتأويله تأويلا ايديولوجيا يجعل التاريخ وما ينتج عنه من هويات مجرد اختراع متخيل يتحول الى نموذج تتأسس عليه نماذج اخرى في عمليات اختراع الهويات المتخيلة ، وذلك ما يفرض وجود نموذج نقدي يتخذ شكل الضد في العمل على فضح هذه البطانة لما يترشح عنها من اشكاليات ثقافية وسياسية واقتصادية ، ذلك ان نمط الالغاء الذي يستوطن هذه البطانة يعمل بدقة على استنبات القطيعة مع الآخر وهويته بكامل مكوناتها الثقافية والسياسية ، وذلك الامر سيدفع بالنقد الى مناطق خطيرة لانه وفي سياق تعامله مع هذه الاشكالية يفترض انها من منتجات النماذج المتخيلة التي تجر معها منظومة من التخلف تسمح لها بالتجذر كنسق فعال ومؤثر في السياق الاجتماعي، وذلك ما سيعرض للهتك حركات اجتماعية تتمتع بوثوقية مطلقة لاحتكار الحقيقة التي ترفض النقد ووجهات النظر المغايرة او المختلفة ولو قليلا حتى عن وجهات نظرها الوثوقية، ومن جانب اخر سيتعرض النقد للسياق الاجتماعي الحاضن لانساق التخلف بوثوقية تفوق وثوقية الحركات المنتجة لهذه الانساق، ذلك ان التغاضي عن طرفي الاشكالية أي المكون الاجتماعي المنتج للاشكالية والسياق الاجتماعي الحاضن والمعقد لانساق هذه الاشكالية يسهم في اسقاط صفة النقد الموضوعي الاستكشافي الذي يسعى الى مقاربة اشكالية التخلف في اطارها الثقافي. ان النظر للتخلف في اطار المجرة الثقافية المنتجة له يقتضي النظر لطرفي الاشكالية أي المكون الاجتماعي المنتج والسياق الاجتماعي الحاضن للنسق المنتج، بوصف الاول السلطة المهيمنة والبنية الفوقية للانتاج والثاني بوصفه البنية التحتية المتلقية للانتاج والمشرعنة له في الآن ذاته، مع الاخذ بالاعتبار ان طبيعة الانتاج الذي يتم النظر له من وجهات نظرنا بوصفه تخلفا فانه من زاوية نظر سلطة المكون الاجتماعي وبالتالي السياق الاجتماعي لايعدو كونه ممثل الوعي الحقيقي ان لم يكن هو الوعي الحقيقي في تصوراتهماK من هنا تتحول هذه الوثوقية في حيازة الحقيقة الى مجموعة من العقائد الاقصائية للعقل الذي يحاول اثبات النقيض، ويبدو دور المثقف بصفته العقلانية مقصيا وغائبا عن ممارسة فاعلية التغيير او التأثير بعد ان افقدته السلطة الاجتماعية دوره النقدي وممارسة فاعليته النقدية بحرية تامة.

لايفهم من ذلك اننا نقف بالضد من الهوية والنظر اليها من زاوية تقويضية واعتبارها سردا مخترعا وملفقا بشكل مطلق كما يذهب نقاد مابعد الحداثة وجماعة ييل بشكل خاص، فالهوية وعلى حد تعبير سعيد البازعي (مهما تحدثنا عن انزلاقها اي الهوية وعدم ثباتها، ومهما تحدثنا عن تداخل الثقافات، فاننا في نهاية المطاف لا نستطيع ان نتخيل الغياب التام للمرجعيات بغض النظر عن نوعها .قد نشكك بالهوية العرقية ونرفضها تماما، لكننا لا نستطيع نفي او حتى التشكيك في المرجعية الثقافية او الحضارية، المرجعية التي تجعل الأوروبي أوروبيا والعربي عربيا) او انها الهوية التي يتحدث عنها ادوارد سعيد بانها تلك التي تغتني بالآخر بمعنى اننا نسعى الى نقد تلك الهوية الصلبة التي لاتقبل الاخر- كما بينا ذلك - بل ان الدعوة الى هوية مرنة تقبل الآخر هو ديدن الدراسة الجادة كما في مشروع عبد الوهاب المسيري الذي يعد اكبر داعية لهوية مرنة ليبرالية تتقبل الآخر ولا تأخذ شكل التطرف الاثني او العرقي الطائفي او القومي الشوفيني، من هنا فان الدراسة الثقافية الجادة التي تبحث في اسباب نشأة الهوية الفرعية المنتجة لاشكال التخلف لا يمكن ان تغفل الايديولوجيا الاجتماعية وفعاليتها في انتاج الاشكالية ، من هنا تنطلق المادة البحثية في تقصي اشكالية التخلف في سياق المنتج الاجتماعي الذي يمد الاشكالية باسبابها. فترض بتبسيطية ان التخلف هو غياب الوعي والتصرف بالضد من العقلانية وهو بعد ذلك تغليب الخرافة واحلالها بديلا عن العقل بوصفه آلية كشف الواقع ، لكن الامر سيختلف بالنظر الى المكون الاجتماعي الايديولوجي ولنشخصه بصفته الدينية او الاسلامية بشقيها ( المتطرف ) المتمثل بالارثوذوكسية السنية والارثوذوكسية الشيعية ، ذلك ان هذه الحركات الاجتماعية تقدم نفسها بوصفها عقلانية واقعية محتكرة للحقيقة ومن جهة انها اكثر الحركات فاعلية وتأثيرا في النسق الاجتماعي كما انها اكثر الحركات فاعلية في اقصاء العقل الذي نفترض انه العقل النقدي العلمي المحايث للتغيرات الاجتماعية والساعي الى فهم الدين فهما مغايرا لما تنتجه هذه الحركات من اداء يكاد يكون مغايرا تماما لطبيعة الدين بعامة الذي يتضمن دعوة لوجود هوية شمولية كلية تتعايش في اطارها الاعراق المختلفة.

ان الدين الاسلامي وهو اخر الاديان تلك التي تقلبت بين وثنية وعبادة اصنام ومثلثة ومجسمة الخ ...من اديان سبقت ظهور الاسلام وعمل الاسلام على صهرها ودمجها ضمن مفهوم التوحيد الذي ظل مفهوما جوهريا وسرمديا في الاسلام وتفرعت عنه النبوة والولاية التي اصبحت من الاصول العقائدية المطلقة وان كان هناك اختلاف بين الشيعة والسنة حول مفهوم الولاية او الامامة ، لكن مقصد القول ان هذه الاصول هي التي تشكل الثوابت وتأخذ صيغة الاطلاق منذ نشأة الاسلام اما فيما عدا ذلك فقد بقيت كثير من المفاهيم خاضعة للتحولات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تضبط حركيتها وايقاعها ثوابت الاسلام التي اشرنا اليها وهذا ما يضفي على الاسلام ديمومته وقدرته على المواكبة للتغيرات الاجتماعية ، لكن الفهم السلفي للدين يعمل بالضد من هذا الفهم التنويري للاسلام كما يعمل على انتاج دين خاص به من خلال تحريف الدين وذلك بالاستفادة من الاطلاقية في الدين وتعميمها حتى على ماهو نسبي أي بادخال الدين الى الادلجة عبر نوع من التأويلات المهووسة التي ترفض النظر الى ماهو نسبي في الاسلام قابل للتكيف مع الظروف الواقعية التي يفرضها العصر ان مؤدلجي الاسلام يرفضون التعامل مع الدين في اطار فرضية التحول التاريخي ولذلك فانهم يتشبثون بالفهم الاطلاقي للدين الاسلامي وذلك بغية استعادة الادوار التاريخية القديمة وتمثيل شخوصها، والى هذه الاشكالية يشير محمد محفوظ ( إننا كمجتمع عربي وإسلامي، نواجه تحدياً قادماً لنا من التاريخ. إذ أن التاريخ بأحداثه ورجاله وقيمه، ما زال حاضراً فينا، بحيث إننا لا يمكننا التفكير في أي شيء،إلا باستشارة التاريخ. فهو إحدى أدوات التقويم والتفضيل، كما أنه أحد أوعية الخلافات والصراعات.

لذلك فإن تحديد موقف واضح من التاريخ يعد عملاً حضارياً، لأنه يجعلنا نتجاوز الكثير من المشكلات النظرية والعملية).
ان استشارة التاريخ او استعادته على النحو السلفي المتطرف لمؤدلجي الاسلام هو نتاج محاولاتهم السيطرة على السياق الاجتماعي بجعله القاعدة العريضة لمعارضة أي فهم تنويري يحاول ان يقدم الاسلام بصورة مشرقة تغاير الصورة التي انتجها السلفيون والمتمثلة بالفهم الذي يضفي على الاسلام اطلاقيته في كل زمان ومكان , ذلك ان هذا الفهم انتج مفهوم القائد الضرورة خليفة الله او الامير بوصفه خليفة الله ايضا، ولذلك فان أي فهم تنويري يحاول ان يحصر الاطلاقية في الدين الاسلامي ببعض المفاهيم العقائدية وان ينتج فهما نسبيا لبعضها لان الاطلاقية في الفهم تقتضي ابعاد الدين عن الشؤون الحياتية والاقتصادية والسياسية من خلال غياب التفسير الموضوعي والواقعي للتاريخ، والحال ان هناك من يحاول تقديم هذه الرؤية والفهم حول ان المطلق في الدين هو المفهوم التوحيدي وما يستتبعه من نبوة وامامة ومفاهيم اخلاقية اجرائية كالعدل والحرية والتسامح.

وما عدا ذلك فانه نسبي يتاثر بالظرف السياسي والتاريخي والاقتصادي المتغير، مثال ذلك مواقف الانبياء تجاه اعدائهم التي اختلفت من زمان الى زمان فمن حرب الى مهادنة ومن قطيعة اقتصادية وسياسية الى تبادل سلعي ومفاهيمي وكذلك بالنسبة للائمة التي مثلت التقية في حياتهم اجلى تعبير عن نسبية بعض المواقف التي تحتاج الى التكييف والمواءمة مع الواقع، بيد ان من يسعى الى تكريس هذه الرؤية فانه يجابه بالاقصاء او بانواع من التصفية الجسدية او العقلية بجعله عاجزا عن تحديد موقف واضح من التاريخ الاسلامي والحركات السلفية والاحزاب المؤدلجة للدين.

لا يمارس الاقصاء على العقل من قبل الحركات المؤدلجة الا من خلال تكوين قاعدة رصينة ترتكز اليها في عملية الاقصاء.
وان مؤدلجي الدين يدركون جيدا ان اخطر قاعدة للاقصاء تتم عبر تكوين نسق اجتماعي يتفاعل مع اطروحاتهم الاطلاقية، ويتضاد مع كل اطروحة تنويرية تدرس التاريخ وفق ضوابط الموضوعية ومن هنا تنشأ الهويات الفرعية المتقاتلة داخل المجتمع باستشارتها للتاريخ والمكوث فيه دون ان تكون هنالك قدرة للسيطرة عليها من قبل الفهم التنويري المقصي الذي تبقيه بعيدا صدامات الهويات الفرعية التي يتوجب على النقد مواجهتها وفضح بطانتها الايديولوجية والعمل على اعادة ربطها بالهوية الانسانية الشمولية العابرة للايديولوجيا والا فان صدام الهويات سيظل فــي حالــة من التفاقم مالم يفعل النقد عدة المواجهة رغم ما يترتب على تلك المواجهة من عواقب.