د. علي حرب


هل ثمّة معنى للكتابة عن الاستشراق والعنصرية والإمبريالية والمركزية الغربية، بعد كل هذه الحروب الأهلية، العربية، التي تجاوزت بفظائعها ومآسيها وهمجيتها وضحاياها حروب الاستعمار أو الحروب بين العرب وإسرائيل؟

لنعترف: نحن نفتقر إلى المصداقية في الحديث عن مركزية الغرب أو عنصريته، كما يمارسها ساسته أو مستشرقوه ومثقفوه، لأن حروبنا هي في الدرجة الأولى ثمرة مجتمعاتنا وثقافتنا، ساسة ومثقفين ورجال دين، وأناساً عاديين. بهذا المعنى فهي فضيحة إنسانيتنا المحشوة بالأحقاد العنصرية، والثارات التاريخية، والعقليات الأصولية الاستئصالية، والنرجسية الثقافية النخبوية.

وهكذا نحن لسنا على مستوى ما ندعيه وندافع عنه، سواء من حيث العلاقة بقيم الحداثة والعقلانية والاستنارة، أو من حيث العلاقة بالقيم الدينية التراثية. ولذا نرانا نتّهم الغرب بالمركزية، فيما نحن نمارس ضد بعضنا البعض عنصرية تنزل بنا إلى الدرك الأسفل، على الصعيد الخلقي والإنساني، كما تشهد الصراعات الدموية بيننا طائفة ضد طائفة، أو عرقاً ضد آخر، أو قبيلة ضد أختها، أو حزباً ضد بقية الأحزاب.

على الأقل، الغرب مارس مركزيته أو حتى عنصريته، في الزمن الكولونيالي الذي كان له وجهه الإيجابي، تنويراً وتحديثاًَ وإعماراً. أما نحن فإننا نكاد نطيح بكل ما استفدناه من الحداثة، أو ننقلب على ما صنعناه في الزمن الحديث، لكي نعود القهقرى، لا إلى العصر الوسيط، ولا إلى العصر الجاهلي، بل لكي نجمع مساوئ القديم والحديث، كما تفعل أصولياتنا المتحجرة. ولا عجب، فمن هو سيئ اليوم، يستجمع مساوئ كل من سبق، وبالعكس، فالصالح والناجح يستجمع حسنات كل من سبق.

بالطبع لا يعطي هذا النقد المصداقية للغربيين، وبالأخص للساسة وقادة الدول. فالإنسانية التي يدافع عنها الغربيون والعرب، والبشر عموماً، هي إنسانية مفلسة بصورها وأطيافها ونماذجها، التي أنتجت ما نشكوه من الفوضى والاضطراب أو الإرهاب والخراب...

ولنتوقف عند مجريات الحرب في سوريا، فهي حرب مركبة على غير وجه، إذ هي حرب محلية بقدر ما هي عالمية، وهي عربية بقدر ما هي إقليمية، وهي طائفية بقدر ما هي عرقية، وبالطبع فهي حرب سياسية مدارها المواقع والمناصب أو الحصص والمكاسب، سلطة وثروة ونفوذاً..

ولذا، تتحمل مسؤوليتها هيئة الأمم ومؤسساتها الأمنية المعطلة، كما تتحمل المسؤولية بنوع خاص الدول التي تتفرج على المأساة، تاركة السوريين لآلة القتل التي تديرها روسيا وإيران الداعمتان للنظام من جهة، والمنظمات الجهادية الأصولية من جهة أخرى. وهكذا نحن إزاء حرب تتقاطع فيها وتتواطأ ضد الشعب السوري، مختلف العنصريات والإمبرياليات الإقليمية والعالمية.

الأجدى أن ننصرف إلى نقد ذواتنا، فقد استهلكت ثنائيات الغرب والشرق، أو الإسلام وأميركا، أو الاستشراق والاستغراب، بعد كل هذا الاضطراب والخراب. نحن إزاء تعارضات خادعة ومزيفة، بقدر ما تستخدم لتمويه المشكلات الحقيقية، وتحول دون تشخيص الواقع وفهمه لفتح أبواب تتيح الخروج من المآزق.

ولذا، فالنقد الوجودي الفعال، هو نقد الإنسان لذاته ولفكره بالدرجة الأولى، بصرف النظر عن انتماءاته وجنسياته، وسواء أكان ضحية أم جلاداً. فكيف إذا تحول الضحية إلى جلاد؟ عندها، فالأولى الانخراط في عمل نقدي تنويري تحريري، يتجاوز ثنائية الأنا والآخر، لفتح فضاءات أمام العمل الحضاري، على أساس التواصل الإيجابي والتبادل الغني بين المجموعات البشرية.

وفي الغرب فلاسفة وعلماء شقوا أمامنا الطريق، بكسر قوقعة الهوية المغلقة، والتحرر من الثنائيات الضدية الخانقة، عبر نقدهم لذاتهم، كما يتجلى ذلك في أعمال بيار كلاستر وكلود ليفي ستراوس، وبالأخص في أعمال ميشال فوكو الذي يعترف إدوار سعيد في كتابه quot;الاستشراقquot;، بأنه اعتمد على منهجه في تحليلاته ومراجعاته القيمة. وهكذا، فإن نقدنا للاستشراق هو، بمعنى ما، ثمرة للثقافة المنتجة في الدول الغربية، ما يعني أن ثنائية الغرب والشرق، وما يتفرع عنها من مقولات وتهويمات، قد فقدت مصداقيتها، لا سيما وأن الغرب يتراجع، ولم يعد هو المركز المهيمن.

تحضرني، وأنا أكتب هذه الكلمات، الأفكار الحية الخصبة والمستقبلية، للمختصة في تاريخ الفن والمتاحف، العالمة الفرنسية كاترين غرنييه، ففي حوار قيّم أجرته معها مجلة الإكسبرس (30 أكتوبر 2013)، تكشف النقاب عن الإبداعات التشكيلية التي أنتجت خارج العالم الغربي، والتي جرى طمسها أو تهميشها من جانب النقاد ومؤرخي الفن في الدول الغربية.

وغرنييه تمارس قراءتها النقدية الكاشفة والتنويرية، لا لتعود إلى ثنائية الأنا والآخر، وإنما لتفتح الأفق الواسع أمام كتابة quot;تاريخ تعددي للفنونquot;. وهي تردّ هذا الانقلاب في النظرة إلى عاملين: الأول هو الخروج من العصر الكولونيالي إلى ما بعده، ثقافة وفكراً، سياسة واستراتيجية. والثاني هو الانخراط في عصر العولمة، بتحولاتها وفتوحاتها ومفاجآتها، إذ هي كسرت الحدود بين الدول بقدر ما وسعت مساحات الحوار والتواصل بين البشر، وخلقت المجال لانتشار الأفكار وتداول النصوص والأعمال على المستوى العالمي، بقدر ما فتحت الإمكان لصعود بلدان جديدة على مسرح الأمم، تسهم بإبداعاتها واختراعاتها في صناعة الحضارة القائمة.

هذا ما أتاح لكاترين غرنييه، الباحثة في شؤون العولمة ومفاعيلها، أن تتجاوز بتحليلها للواقع العالمي، الأفكار المستهلكة حول ثنائية الأنا والآخر، لكي تكتب عن quot;حداثة متعددةquot; بآفاقها ومدارسها واتجاهاتها. ولا عجب في ذلك، فلا يمكن أن نلج عصراً جديداً، أو ننخرط في واقع كوني مختلف، دون تغيير يطال أنماط التفكير وأساليبه، وعلى النحو الذي يمكننا من أن نتجاوز الرؤى الأحادية والمناهج الاختزالية الفقيرة، كما نتجاوز ردات الفعل الضيقة والعنصرية من أي طرف أتت، للانخراط في بناء حضارة عالمية متعددة المراكز والأقطاب والنماذج والعوالم الثقافية.

كاتب ومفكر لبناني

[email protected]