أحمد عبد المعطي حجازي

أكتب لكم من باريس عن طه حسينrlm;,rlm; ومع أن باريس لابد أن تذكر زائرا مثلي بزوار مصريين آخرين سبقوني إليها من أوائلهم طه حسينrlm;,rlm;

فقد كان أقرب إلي المنطق أن أكتب عن طه حسين وأنا في مصر, وأكتب عن باريس وأنا في باريس.
لكننا نحن المصريين نمر في هذه الأيام بأوقات عصيبة وظروف لاتسمح لنا دائما بأن نكون منطقيين, وهل يكون منطقيا علي سبيل المثال أن يمر الشهر الماضي أكتوبر وتحل فيه الذكري الأربعون لرحيل الأستاذ العميد فلا تحتفل بها مصر ولا تعيرها أي انتباه؟
أعرف أن مصر معذورة, مصر التي أنجبت طه حسين وأرسلته إلي باريس, وأرسلت غيره قبله وبعده معذورة إذا لم تحتفل به في ذكراه, لأنها تواجه في هذه الأيام تحديات صعبة, وتتعرض لأخطار مصيرية تهدد بإعادتها إلي ما كانت فيه قبل أن تستيقظ علي طلقات مدافع بونابرت في معركة امبابة التي فتحت له الطريق إلي القاهرة بعد أن لاذ المماليك بالفرار.
في هذه اللحظة قررت مصر أن تتولي أمر نفسها وأن تخرج من ظلمات العصور الوسطي, وأن تجلو الصدأ عن سيفها وتشهره في وجوه الفرنسيين الذين جاءوا شاهرين سيوفهم وفي وجوه المماليك الفارين والأتراك الذين سرقوا بردة النبي وزعموا أنهم خلفاؤه.. وتلك هي اللحظة التي فتحت الطريق لمحمد علي وابنه ابراهيم وسليمان باشا الفرنساوي, ورفاعة بك الطهطاوي. للدولة الوطنية والدستور للبرلمان ودار الأوبرا, لعرابي وسعد زغلول, وللجامعة المصرية وطه حسين.
أريد أن أقول إن سيرة مصر في هذا العصر تشبه سيرة طه حسين, الظلام الذي ابتلي به طه حسين في أعوامه الأولي ابتليت به مصر قرونا وقرونا, حتي اصطدمت بالغزاة الذين اقتحموا عليها عزلتها المظلمة فردت إليها الصدمة بصرها. وكذلك حدث لطه حسين. سوي أن طه حسين هو الذي اقتحم علي باريس نورها فارتد إليه بصره, فإذا كانت مصر لم تحتفل به في ذكراه فلأن مصر التي تستطيع أن تحتفل بطه حسين لم تعد تحتفل بنفسها!
مصر لم تعد تحتفل بنفسها منذ تخلت عن نهضتها الحديثة وفرطت فيما أنجزته طوال القرنين الماضيين, وأسلمت نفسها للذين عادوا بها من جديد لعصور الظلام, وإلا فما الذي بقي لنا مما أنجزناه؟
ما الذي بقي لنا من الطهطاوي؟ بقي الاسم وذهب المسمي! وما الذي بقي لنا من محمد عبده؟بقي لنا القرضاوي, وشيوخ السلفية, ونجوم الفتنة الطائفية!
وما الذي بقي لنا من أحمد عرابي, وسعد زغلول, ومكرم عبيد, ومصطفي النحاس؟ بقي لنا بديع, والبلتاجي, والعريان, ومحمد مرسي!
وما الذي بقي لنا من دستور1923 بقي لنا دستور الغرياني!
وما الذي بقي لنا من قاسم أمين وهدي شعراوي ودرية شفيق؟ بقي لنا الحجاب والنقاب, والفصل بين الجنسين وفتوي إرضاع الكبير, والزواج ببنات التاسعة!
وما الذي بقي لنا من علي عبدالرازق وكتابه الاسلام وأصول الحكم؟ بقي لنا حكم المرشد وعشرة أحزاب سلفية!
وما الذي بقي لنا من الجامعة؟ بقي المشعوذون الذين يبحثون في النصوص الدينية عن جاليليو ونيوتن وأينشتين, وبقي صبيتهم الذين يعتدون علي المفتي وشيخ الأزهر, ويسرقون الأجهزة ويدمرون المعامل!
وما الذي بقي لنا في الله والفلسفة, وفي الشعر والنثر, وفي النحت والتصوير, وفي الموسيقي والغناء!
بكلمة واحدة, ما الذي بقي لنا من مصر؟ أقصد من هذه النهضة وهذه الثقافة التي خرجت بها مصر من جحيم العصور الوسطي وتحققت بها وعادت للحياة من جديد؟
مصر التي نهضت هذه النهضة وخلقت هذه الثقافة لم تعد موجودة كما كانت موجودة من قبل, لا لأنها فقدت قدرتها علي أن توجد وتتحقق, أبدا, فمصر قادرة دائما راغبة في الحياة مقبلة عليها, مستعدة لأن تنهض وتعمل, تنتج وتبيع, وإنما ابتليت مصر بنظام أعادها لعصور الظلام, ووقعت في براثن الحكام الطغاة, واعتقل أبناؤها, وكممت أفواههم وطوردوا وعذبوا, وأهينوا وأذلوا حتي فقد بعضهم صوابه وهرب من العنف إلي العنف, ومن طغيان الحاكم إلي طغيان المحكوم, فإذا كانت مصر الديمقراطية المثقفة المستنيرة لم تعد موجودة أو إذا كانت محرومة من أن توجد فمن المنطقي أن يكون طه حسين غائبا غير موجود, فليس طه حسين إلا وجها من وجوه مصر, بل هو وجهها المعبر عنها. يوجد حين توجد, ويغيب حين تغيب, وكما كانت مصر ضحية للطغيان كان طه حسين ضحية له. ولقد عشت تلك السنوات السوداء التي جرؤ فيها شخص عينه النظام الحاكم مسئولا عن صحيفة الجمهورية فكان من مآثره التي خلدته القرار الذي أصدره بإعفاء طه حسين من رئاسة التحرير لأنه لايكتب بانتظام!
لكن هذا كان أول الغيث الذي انهمر بعد رحيل الأستاذ العميد. كتب ومقالات تسابق في كتابتها كل من يئس من قدرته علي إقناع القارئ باسمه وكسب ثقته بمفرده فلجأ إلي طه حسين يستخدم اسمه ليلفت القراء لما يكتب. ولما كانت ثقافة النهضة قد تراجعت كما رأينا, وأصبحت التجارة بالدين تجارة مربحة, فقد انهالت علي طه حسين الطعنات, أشباه كتاب, أنصاف أسماء تكأكأوا علي طه حسين يتهمونه بالماسونية, والشيوعية, والعمالة للغرب, والنقل عن المستشرقة, والترويج للوثنية, تصور! وأنا أعرف اسما من هذه الأسماء اشتغل سنوات بالتدريس, في بلد مجاور وانتهز فرصة الزيارة التي قام بها طه حسين لهذا البلد مدعوا من كبار المسئولين فيه ليحشر نفسه مع الذين استقبلوا الأستاذ العميد ونظم قصيدة يمدحه فيها. هذا المداح المتسلق لم يتردد حين عاد إلي مصر ووجد الفرصة سانحة والتجارة رابحة فقلب للممدوح ظهر المجن وهجاه نثرا هذه المرة.. وقد أحسن الصديق الراحل رجاء النقاش حين أعاد نشر المديح المجهول ليعرف الناس أن صاحبه كاذب في الحال!
وقد شاركت الدولة في هذه الحرب المعلنة علي طه حسين فخرجت مؤلفاته من المناهج المقررة في مدارسها!
هكذا ترون أني لم أستطع أن أكتب عن طه حسين في هذه المقالة لأني بحثت عنه فلم أجده. لقد نفي هو ورفاقه من مصر من زمن الطغيان., لا أظن أنهم عادوا إلي وطنهم حتي الآن!.