عبد الرؤوف المالكي

مع اشتداد الأزمة السياسية في تونس وتعذر الاتفاق بين المعارضة وlaquo;الترويكاraquo; الحاكمة على اسم مرشح مستقل لرئاسة حكومة الكفاءات، سرع الحزب الحاكم من وتيرة التعيينات في مناصب إدارية حساسة، كي يضمن تسهيل حملته الانتخابية المقبلة ويضمن، تالياً، ولاء قسم من مؤسسات الدولة. يعتبر قادة حزب laquo;النهضةraquo; هذه التعيينات المكثفة أمراً طبيعياً استناداً إلى أن تقلد المناصب الإدارية حق لأي مواطن. ويزيد بعضهم مؤكداً أن تسمية laquo;نهضويينraquo; في مناصب إدارية يساهم في رفع المظلمة التي تعرضوا لها في تسعينات القرن الماضي بفصلهم من وظائفهم. غير أن غالبية الكوادر التي اعتقلت وحوكمت في تلك الفترة كانت من الطلاب الجامعيين، ما جعلهم بلا خبرة تؤهلهم لتولي مراكز رفيعة في الإدارة، وهو ما جعل الولاء الحزبي معياراً وحيداً للتعيينات وليس الكفاءة. وفي هذا الإطار سُمي مئات من القياديين النهضويين، بمن فيهم أعضاء الحزب الحاكم في laquo;المجلس الوطني التأسيسيraquo; (برلمان انتقالي)، في مناصب عمومية مع احتساب الفترة الماضية (نحو 20 سنة) أعوام خبرة. وطبقاً لتقديرات شريكي laquo;النهضةraquo; في laquo;الترويكاraquo; شملت التسميات في مواقع إدارية رفيعة (محافظون، رؤساء مجالس إدارة مؤسسات عمومية، مفتشون عامون في وزارات...) 1300 موقع لم يحصد منها الشريكان سوى مئتين فقط.

انطلق هذا المسار من قانون العفو الاشتراعي الذي تم سنه قبل وصول laquo;الترويكاraquo; إلى الحكم، والذي استعاد بموجبه آلاف من أعضاء laquo;النهضةraquo; وحتى من أنصارها حقوقهم السياسية والمدنية. وأصر الحزب بعد صعوده إلى سدة الحكم على صرف laquo;تعويضاتraquo; مُجزية لأعضائه من موازنة الدولة. غير أن وزير المال آنذاك حسين الديماسي (مستقل) اعترض على الإجراء مُحذراً من آثاره السلبية في ضعضعة الموازنة العاجزة أصلاً، ما اضطره للاستقالة بعدما اعتمد مجلس الوزراء القرار.

بهذا المعنى غلّبت حكومة laquo;النهضةraquo; الأولى برئاسة حمادي الجبالي مصالح الحزب على مصالح الدولة، قبل أن يستقيل رئيس الحكومة مطلع العام الجاري في أعقاب اغتيال معارض بارز. واستكملت الحكومة الحالية المسار نفسه، مع تكثيف تسمية ولاة (محافظون) ورؤساء لجان بلدية موقتة من حزب laquo;النهضةraquo;، ما أثار حفيظة المعارضة التي وضعت التراجع عن تلك التعيينات السياسية شرطاً للتوافق على تكليف حكومة مستقلة إدارة المرحلة الانتقالية الثانية. ويمكن القول إن laquo;النهضةraquo; عاودت إنتاج زواج الحزب والدولة الذي بنى عليه زين العابدين بن علي نظامه، مستفيداً من تجربة سلفه الرئيس الحبيب بورقيبة مؤسس مفهوم الحزب/الدولة الذي عمل على جعل حزبه الفسحة الوحيدة للعمل السياسي الشرعي.

لم يعترف بورقيبة بالتعددية سوى في 1981 مع إبقاء المعارضة في الهامش، إذ لم يعتمد القوانين الغربية التي تعاطت مع المعارضة كحق وليس بوصفها منة. وقد أمر بتزوير الانتخابات في السنة نفسها عندما علم أن معارضين فازوا في بعض الدوائر. أما بن علي فأدخل تعديلاً جوهرياً على زواج الحزب والدولة بفتح بيت الطاعة للقانعين بلعبة الكومبارس من جهة وإخراج المعارضين الحقيقيين من مربع الشرعية. واليوم سعت laquo;النهضةraquo; أيضاً لاستقطاب أحزاب صغيرة كي تُوسع من خلالها دائرة المؤيدين لها في جلسات laquo;الحوار الوطنيraquo; وكذلك في laquo;المجلس التأسيسيraquo;، مع تفضيلها اللجوء إلى آلية الاقتراع بدل التوافق لكي يسود موقفها.

لكن الواضح أن معاودة إنتاج الحزب/الدولة تلقى اليوم اعتراضاً قوياً من الفئات الوسطى، وفي مقدمها الشرائح التي قاومت النظام السابق بقوة أي المحامين والقضاة والإعلاميين. وفيما شن المحامون إضراباً ناجحاً في الشهر الجاري لرفض تدخل رموز من laquo;النهضةraquo;، خصوصاً وزير العدل السابق، في التعيينات التي تشمل سلك القضاء، نفذ القضاة إضراباً مماثلاً استمر يومين، مُعتبرين أن تخصيص مقاعد للسلطة التنفيذية في الهيئة القضائية العليا يشكل بوابة للتأثير في التسميات، وتالياً النيل من استقلال السلطة القضائية. كما تعيش الساحة الإعلامية غلياناً دائماً بسبب التعديات المتكررة على الصحافيين. وانتقلت ظاهرة الاعتراض هذه إلى الأئمة الذين رفضوا تحكم laquo;النهضةraquo; في المساجد وتسييسها من خلال سيطرة الحزب على وزارة الشؤون الدينية.

في المقابل أظهر حزب laquo;نداء تونسraquo; الذي تضعه الاستطلاعات في مركز الحزب الرئيس المعارض للـ laquo;ترويكاraquo;، رخاوة في التعاطي مع تقاليد النظام السابق. وكشفت تصريحات قيادييه أنه لا يمانع من معاودة تأهيل رموز النظام السابق، الذين شرعنوا وكرسوا التداخل بين الحزب الحاكم والدولة.

وانطلاقاً من السعي لحشد أكبر عدد من المناصرين في وجه laquo;النهضةraquo;، لم يتوان حزب laquo;النداءraquo; عن استقطاب مئات من قيادات laquo;التجمع الدستوري الديموقراطيraquo; المنحل، وتسمية بعضهم في مواقع قيادية. وفي آخر بيان للحزب أعلن عن انضمام وزراء ومحافظين وسفراء ومسؤولين حزبيين من الذين عملوا طيلة سنوات تحت قيادة بن علي إلى صفوفه، من ضمنهم السفير السابق لدى إسرائيل والأمين العام لـ laquo;التجمعraquo; لدى اندلاع الثورة، والذي أفيد بأنه تسلم ملف الانتخابات. ولا تُخفي قيادة laquo;النداءraquo; حماستها لاستقطاب المسؤولين السابقين، كونها في منافسة شديدة مع حامد القروي رئيس وزراء بن علي الذي أسس حزب laquo;الحركة الدستوريةraquo; ساعياً لاستقطاب مساعدي بورقيبة وبن علي على السواء. هذا السباق بين laquo;النهضةraquo; والتيار الرئيس للمعارضة (التيار الدستوري) لاجتياح مؤسسات الدولة وraquo;احتلالraquo; مواقع القرار فيها، نقل البلد إلى أجواء القطبية الثنائية، التي مزقت أوصال المجتمع طيلة عقدين من الزمن، لكن مع تغيير المواقع بعدما باتت laquo;النهضةraquo; في الحكم.

ليس غريباً في هكذا مناخ أن تُسجل في تونس أرفع نسبة اكتئاب على الصعيد العالمي، إذ إن البلد الذي افتتح ثورات الربيع العربي والذي يتسم بتجانس شعبه دينياً وقومياً ولغوياً، بات شعبه يعاني التجاذبات السياسية، بخاصة بعد فشل جلسات الحوار الوطني وتفاقم الأزمة المعيشية وتنامي ظاهرة الإرهاب.