مطاع صفدي

الوصف الدقيق لإنقلابات السياسة الأمريكية، هو أن زعيمها هذا الرئيس الأسمر الأول في البيت الأبيض منذ إنشائه، إنما يمارس أنضج ثمرة لإنجاز ثورة التواصلات الإلكترونية الراهنة المسيطرة على عالم اليوم، وهي ثقافة الافتراض. ما تعنيه هذه الثقافة أولاً هو افتراض أن واقع أزمة دولية ما كأنه غير موجود، واستبداله فورياً بواقع آخر، ليس مصطنعاً أو موهوماً، بل له ممثلوه وأحداثه وحركياته، وحتى إنجازاته. لكن المشكلة أن عمليات الإستبدال هذه لا يمكنها أن تلغي الواقع الأصلي . والبديل عنه قد يغطيه، يخفي بعض معالمهالناتئة، يكبت أصواته وصرخاته، لكنه يظل موجوداً بحقائقه المادية والإنسانية، ما تفعله ثقافة الإفتراض في ميدان السياسة خاصة، هو أنها قد تنجح في تورية ملامح الأزمات لكنها تعجز حقاً عن ابتكار حلولها الصحيحة.


هذا هو عنوان النظام العالمي الجديد الذي شرعت في بنائه استراتيجية (أوباما). فأمريكا لن تنسحب من غابات السياسة الدولية، لكنها لن تكون الشرطي الأول الناشط ضد ذئابها، هنالك طرق أخرى عديدة لإدارة هذا العالم المتوحش، من دون أن تتلقى منه أسوأ نتائجه. هذا لا يعني أن أمريكا ستتحول إلى حمامة سلام، توزّع ثقافة الأمان والتضامن ما بين شعوب الأرض.. لن تسحب لغة المصالح من أية مشكلة دولية مستعصية، بل هي كانت سيدةَ النهج الذرائعي منذ نشأتها، ولسوف تبقى أبرع اللاعبين في مسرحياته. إلا أن خبرات الفلسفة الذرائعية هي التي أنضجت أخيراً أعلى ثماراتها مع حلول عصر الافتراضات كما تعيشه حضارة التقنيات الإلكترونية الراهنة.


النظام العالمي الجديد لا يهدف إلى زعزعة مركب الاستبداد/الفساد، العائد والموجِّه لسلوكية المجتمع الدولي، كمؤسسة كونية لتنظيم حصص السيطرة على العالم من قبل أقويائه على ضعفائه، ما يفعله الإنقلاب الأمريكي ليس تغييراً في مفهوم النظام العالمي السائد والمستديم، بل في وسائل تجديده، مما يتطلب زَرْقَ حيوية مختلفة في منهجيته المعتادة. يريد لمركب الإستبداد/الفساد ألا يظل مقتصراً على معظم دول المعمورة، الفقيرة فقط. هاهو يجدد زحفه نحو العواصم الكبرى للغرب. وهنا في هذا القطاع المتنور والمتقدم من إنسانية القرن الواحد والعشرين، كما تدّعي نُخَبُه المثقفة والحاكمة معاً، لم يعد الاستبداد مستوطناً في قمم الدول، فقد فارق فعاليات السياسة مباشرة، واستقر في مفاصل الشبكة الإقتصادية. ومنذ أن أصدر فيلسوف الحداثة المعاصرة lsquo;جول دولوزprime; كتابه الفاصل عن كون الرأسمالية قد فرضت على مجتمعاتها أن تعاني عقد (الانفصام) الأنطولوجي بين تطور وعيها الثقافي وواقع التفاوت الطبقي لمعظم كياناتها الإنسانية، وذلك بفعل سيطرة قانون الاستغلال اللامحدود، على منظومة العلاقات الاجتماعية وقِيمها الأخلاقية، فذلك هو ما يجعل أحابيل الفساد حاصل تحصيل لمجمل العملية السياسية الإقتصادية للدولة والمجتمع معاً
إن مركّب الاستبداد/الفساد هذا، قبل أن تتميز به نهضات العالم الثالث الزائفة ما بعد استقلال دولها من الهيمنة الغربية، كان ولا يزال قابضاً على عنق المدنية الغربية المصابة بأعراض الإنفصام الوجودي، كما كشفته دول الإيديولوجيات الكليانية الكبرى وحروبها الأوربية العالمية للقرن العشرين، وكانت فلسفات النصف الثاني من هذا القرن هي الفاضحة لزيف المدنية الغربية، وانفصالها الوجودي بين ثقافتها التنويرية وواقعها المعيشي والسياسي المغرق في سلوكيات الإستغلال الطبقي والعنصري والعقائدي. ما نريد قوله هنا هو أن مركّب الإستبداد/الفساد ليس خصوصية مستديمة للعالمثالثية، إنه في أصله، صناعةٌ غربية بامتياز، هو المعبّر الحقيقي عن مصطلح العلاقات العميقة لآليات العملية المجتمعية، المحركة لتطورات مدنية الرأسمالية، الآيلة أخيراً عصرياً إلى عبودية نمط الاستهلاك الشمولي، هذا الإقطاع المستحدث لديمومة السلطة الأحادية للنخبوية المطلقة تحت تسميات مختلفة.
غير أن هذه الديمومة هي التي تواجه تهديدها الأعظم في ظروف الإنهيار الإقتصادي الحالي الذي أفقد الغرب أولويته في قيادة إستراتيجية التطور العالمي، فلم يتبقَّ للغرب، لمجتمعاته المتقدمة، سوى ما تراكم لدى بعض طلائعها من خبراتها العقلية المتفوقة، لكنها المحتاجة إلى تذخير حواملها الإنتاجية بتلك المواد الأولية المعهودة التي لا يزال العالم الثالث وحده يكتنزها في أرضه الطيبة البكر، وفي إنسانه البريء، لكنه المعطّل في إرادته وحريته، والذي لا بد لهذا الغرب من مضاعفة أسباب هذه العطالة الذاتية بكل ما يمكن لعبقريته الاستراتيجية في ابتكار أخبث وأحدث وسائل وآليات تفعيل مركّب الاستبداد/الفساد إياه.


إنه العالم الثالث المستديم، وفي طليعته قارة العرب والإسلام التي لا تكفّ عن تحويل هزائمها النهضوية إلى مشاريع انتصارات وهمية جديدة. ومع ذلك فقد باتت ميادين هذه القارة أقربَ إلى ساحات من البراكين المتواقتة في التفجير وفي الخمود. وصولاً راهنياً إلى مرحلة الثورات الجماهيرية المتمردة على فنون الضبط الخارجي لمفاجآتها، والانضباط الذاتي النابع من تناقضاتها العملية والنظرية معاً. هذه الثورات المختلفة التي يُراد تصنيفُها تحت هذه المقولة شبْه السحرية والشاعرية: الربيع العربي، يدرك بعض الفكر الغربي أنها غير قابلة للأدلجة، من أي مصدر دخيل عليها. ليست قومية، ولا طبقية، ولا ليبرالية. مالا يُصدق هو أن ممارسات هذه الثورات على الأرض، ليس لها من محرك أو هدف سوى كلمة واحدة هي: الحرية. يحدث هذا بالرغم من كل محاولات اختطافها وتشويه سمعتها، واضفاء خصائص كل المنفّرات، حتى اللاأخلاقية، على الكثير من انحرافاتها وأضاليلها، بل جرائمها، لأول مرة تصير ثورة عالمثالثية غير قابلة للانطفاء، قادرة على إعادة إطلاق شراراتها الجديدة من رماد جمراتها الخابية عينها. هذه الثورات lsquo;الربيعيةrsquo; يدرك مثقفون غربيون كثر أنها قد تنوب عن يسارهم الفاشل، في التصدي لأول مرة لمركّب الاستبداد/الفساد، متعرياً من أيديولوجياته المستنفدة شكلاً ومضموناً، ومُطارداً ليس في ساحاته الخارجية، أو المناطقية وحدها، وإنما سيُبْتَلَى به الغرب نفسه في عقر داره.
هكذا يحاول الانقلاب الأمريكي الاستنجاد بمخزونه القديم من العنف الدبلوماسي، بديلاً جاهزاً عن خيبات العنف العسكري وتكاليفه الهائلة في كل شيء. ولعلها لم تعد أمريكا، وكل الغرب وراءها كالعادة، مهووسة بتغيير الكيانات القائمة، من سلطوية حاكمة أو شعبية ثورية، مضادة لمصالحها. ولم تعد تتحمل أعباء هذه السياسة التدميرية المطلقة. فلقد أَعجزها التغييرُ إزاء مشكلاتها الذاتية المستعصية، قبل أن يُعجزها التغييرُ والاستجابة المناسبة لتحديات الآخرين؛ وذلك بعد أن تراكمت جولات أمريكا واسرائيل الحربية وأشباهها الخائبة في تحقيق مشروعهما المشترك المسمَّى بالشرق الأوسط الجديد، حيثما تغدو صهيونية إسرائيل هي الحاكمة بأمرها مافوق وعبر دول المنطقة كلها العربية والاسلامية، وتحت مظلة واسعة من القوى العسكرية الضاربة لأمريكا. ثم ما أن انبثقت مقاومة المنطقة بطريقة غير معهودة، وأطل طقس الربيع، مجتاحاً لقلاع عتيدة من منظومة مركّب الاستبداد/الفساد، لم تتبقَّ ثمة وسيلة بيد الغرب سوى التظاهر بسلوك الانصياع للأمر الواقع. فقد أعطى الغرب نفسه صفة شريك الضرورة للثورات الصاعدة، كان اغتيالها، وهو بين صفوفها، أسهل عليه من فتح جبهات المواجهة المباشرة مع طلائعها.
شراكة الضرورة هذه فرضت على الثورات توأمتها بالفوضى من كل نوع تنظيمي أو أيديولوجي، وكانت ثورة سورية هي الضحية الكارثية والكبرى لاستراتيجية هذه التوأمة المشؤومة. وها هي تكاد تدخل مرحلة التصفية النهائية لفصولها المفجعة، مع انتداب دولة الملالي في طهران للإجهاز على ثورات الربيع العربي، وإدخال قارة العرب والإسلام في دياجير الصراعات المذهبية المغرقة للجميع، والقاتلة لأنصارها كما لأعدائها.
تريد أمريكا من العالم أن يقتنع أن إيران يمكن أن تقلع نهائياً عن مسيرتها وراء القنبلة النووية مقابل أن يُعطى لها حق التدخل في مختلف شؤون القارة العربية والإسلامية. فقد يرضيها أن تفوز بإمبراطورية النفوذ بديلةٌ عن إمبراطورية التسلّط النووي. فلماذا إذن لا تنطلق إيران في مرحلة التصالح مع جيرانها العرب، لتتلقى منهم نوعاً من القبول بمشروعية الأمر الواقع الجديد، بدلاً من أن تفرض عليهم هواجس الخوف والتخويف من سلاح التدمير الشامل، هذا الذي لن يتاح لها أبداً استعماله، وإن هي تملَّكت منه.


أمريكا مشغولة بنسج وتصدير سيناريوهات التغيير الافتراضي، في حين يعرف القاصي والداني أنها لم ولن تستطيع تغيّر شيئاً من تضاريس الشرق الأوسط بقوة الافتراضات الخيالية هذه وحدها، بعد أن تخلت عن تعديل خرائط الأشياء بقوة الأشياء، وليس برقصات أشباحها وأوهامها فحسب.