الحسين الزاوي

يعيش العراق منذ الاحتلال الأمريكي الغاشم في دوامة لا تنتهي من العنف والعنف المضاد، ويبدو أن الجميع بات يخشى من انفراط عقد وحدة الدولة وتآكل النسيج الوطني المشترك؛ الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان التوصّل في المدى المنظور إلى إعادة اللحمة الوطنية لمكونات المجتمع العراقي المتعدد الأعراق والطوائف . ونعتقد في هذا السياق أن الحديث عن الطائفية من قبل التشكيلات السياسية، يهدف بالدرجة الأولى إلى التغطية على الفشل المزمن الذي تعانيه النخب الثقافية والفكرية من أجل صياغة مشروع وطني مشترك قادر على الاستجابة للتطلعات الكبرى والأساسية للمواطن . وذلك من منطلق أن الإنسان العراقي ما عاد ينشغل كثيراً بهوية من يريد أن يحكمه بقدر ما أضحى يصبو الآن أكثر من أي وقت مضى، إلى بناء دولة المؤسسات التي تضمن حقوق كل الأفراد بصرف النظر عن قناعاتهم وانتماءاتهم السياسية . لاسيما في هذه الفترة التاريخية الحرجة التي أدى فيها اضمحلال قواعد الدولة المركزية إلى تضخم النزعات المحلية لزعماء الأقاليم والمحافظات، الذين يفتقر معظمهم إلى مؤهلات قيادة المشروع الوطني، وبخاصة بعد تراجع دور المجتمع المدني لمصلحة المكونات والانتماءات القبلية والعشائرية . كما أن انتشار العنف وتفشي ظاهرة التفجيرات العشوائية أسهما في تضاؤل مساحات المجال العمومي المشترك، الذي كان من شأنه أن يؤدي دوراً وظيفياً رائداً في دفع النخب إلى البحث عن نقاط تفاهم مشتركة، من أجل دعم وحماية الدولة الوطنية في بلاد ما بين الرافدين .

ولا مندوحة من الاعتراف هنا أن الاحتلال الأمريكي قد أسهم إلى حد لا يمكن إغفاله في الرفع من مستوى سقف المطالب الانفصالية لاسيما لدى الأكراد، الذين تشكّلت لديهم على مدى العقود الماضية نخب سياسية بنت هيبتها وسمعتها على أسس وشعارات انفصالية، وتراجعت لديها بشكل واضح معايير الكفاءة والاستحقاق واحترام الهوية الوطنية المشتركة للعراقيين، معايير كان يفترض من الناحية النظرية على الأقل ألا تتعارض مع مقومات الهوية الجزئية للأكراد . لأنه لو قدر للدول أن تتأسس اعتمادًا على أسس عرقية، لتضاعف عدد دول العالم إلى الحد الذي لا يمكن التحكم فيه، ولما كانت هناك بالتالي إمكانية لقيام دول محترمة ومهابة الجانب بناءً على مقومات حضارية وقيم وطنية مشتركة تحافظ على حقوق الجميع، وتضمن بالقدر نفسه التداول السلمي للسلطة، والأمثلة على ذلك كثيرة ولا يحتاج الأمر إلى تقديم إثباتات تتعلق بصحة هذه الدعوى .
والحقيقة التي لا يمكن القفز عليها هو أن العراق دخل في نفق مظلم منذ أن تمّ حل الجيش العراقي، وبعد أن جرى صياغة دستور طائفي سمح للأكراد بتأسيس اللبنات الأولى لكيان سياسي وإداري قابل لأن يتحوّل في أي لحظة إلى دولة مستقلة، وتحديداً بعد أن جرى التوافق المتسرّع على أن تحافظ الأقاليم الكردية على ميليشياتها المسلحة . وبالتالي فإن بعض زعماء المحافظات الكردية باتوا يكثفون- في المرحلة الراهنة- من ضغوطاتهم من أجل أن تحصل هذه الميليشيات على قسم من الأسلحة الثقيلة التي يجتهد الجيش العراقي الحصول عليها .

لكن علينا أن نعترف في المقابل أن المشكلة الكردية كانت ستكون أقل حدّة مما هي عليه الآن، لو أن النخب الحاكمة نجحت في إقناع المواطنين العراقيين في المناطق الكردية أن تمسكهم بالوحدة الوطنية، سيضمن لهم الحصول على سقف أعلى من الحقوق مقارنة مع ما يمكن أن يقدمه لهم أي كيان انفصالي وليد، وبالتالي فحصول قسم معتبر من الأكراد على حقوق وامتيازات معتبرة داخل مؤسسات الدولة الوطنية سيسهم من دون أدنى شك في دعم الانتماء الوطني لدى قسم كبير منهم، وسيحرم المتاجرين بالقضية الكردية من قدرتهم على استثمار إحساس سكان المناطق الكردية بالتهميش والإقصاء، ولا ريب أن الوضعية ستكون في اعتقادنا أفضل عندما يتمكّن كل مواطن عراقي من أربيل أو السليمانية من الحصول على ما يتطلّع إليه من العدل والإنصاف في بغداد عندما تضيق به السبل في المدن والقرى الكردية .
أما بالنسبة للفتنة السنية- الشيعية، فأمر تجاوزها لا يتطلب أكثر من إزالة الطابع الطائفي للحكم في بغداد، ويُفترض بموازاة ذلك أن تحرص النخب الدينية الممثلة للفريقين على أن يكون تدخلها في الشأن السياسي العام مرحلياً فقط، واعتماداً على ضوابط مدنية قائمة على احترام قواعد الممارسة السياسية المستندة إلى احترام مبدأ مساواة الجميع أمام القانون . كما أن الالتزام باحترام الطابع الفردي للممارسة الدينية سيقلّص بشكل واضح مظاهر التوظيف السياسي للرموز الدينية، التي ينجر عنها في الأغلب إيقاظ مفتعل وغير مبرر للانتماء الطائفي لدى مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد العراقي .
ويمكننا أن نزعم في هذه العجالة أن طموح بناء دولة عراقية ديمقراطية قوية ومتطورة تعيش في كنف الاستقرار والطمأنينة، يمثّل حلماً ما فتئ يراود كل المؤمنين بالهوية العربية المشتركة من المحيط إلى الخليج، وهو حلم سيظلّ فاعلاً ومؤثراً لأنه يتجاوز القوالب الدينية والعرقية الضيقة، لأسباب عديدة أهمها على الإطلاق، أن الذين عملوا من أجل الحفاظ على بريق ورونق هذا الحلم الأزلي لم يكونوا فقط من العرب، ولم يكن بالتالي دينهم الأوحد هو الإسلام، بل كانوا ممن يؤمنون بفضائل وإنجازات الحضارة العربية - الإسلامية المتعدد الأعراق والأديان، وسيكون من الخطأ الجسيم أن يفرط العراقيون في هذا الرأسمال الرمزي الذي يمثله المشروع الوطني العراقي .