رشيد الخيّون

وظفت مراسيم عاشوراء، وذِكر الإمام الحسين بن علي (قتل 61 هـ)، على مدى عهود الدولة العراقية، مِن قِبل المعارضة، وكان هذا سبباً في تعطيل السلطات لها، سواء في العهد الملكي أو الجمهوري. فهناك بحر من البشر لا يجتمع لمناسبة مثلها، والأحزاب تدس أغراضها بين الجموع، وفي أحيان تتحول عاشوراء إلى مواجهات بين الأحزاب نفسها، تبدأ بالأهازيج وتنتهي بالدماء، وليس منع تسيير المواكب دائماً وراءه غرض سياسي أو طائفي، إنما قد تقود الاضطراب بين المواكب، المقسمة على أساس العشائر والمدن والمهن واتجاهات سياسية، إلى هذا المنع.

أما ما حصل من إظهار الحزن مِن قِبل السلطة في عاشوراء، خلال الدولة الفاطمية (358-567 هـ)، والسلطنة البويهية (334-447 هـ) ثم في الدولة الصَّفوية (1501- 1723)، فلا يُقابل بما نتحدث عنه في نظام انتخابي يسمح بتداول السلطة وعبر صناديق الاقتراع، فتلك الدول كغيرها ليست بحاجة إلى دعاية انتخابية أو إرضاء المحكومين. تسلمت الأولى والثانية السلطة وهي على مذهب التشيع بشطريه الإسماعيلي والزيدي، فالبويهيون على الأرجح كانوا زيديين. ذلك لتبنيهم مقالة معتزلة بغداد في الإمامة، مثلما هي عقيدة المذهب الزيدي الكلامية، وشارح laquo;نهج البلاغةraquo; ابن أبي الحديد (ت 656 هـ) كان على هذا المذهب، مع علمنا أيضاً أن الزيديةَ شيعةٌ في الإمامة، ومعتزلة في العقيدة، والغالب على فقههم المذهب الحنفي. وفي العلاقة بين المعتزلة والزيدية يمكن القول إن معتزلة بغداد هم زيدية، وفي كتابنا laquo;معتزلة البصرة وبغدادraquo; ما لا يوجب إعادة الكلام. هذا ولم أحصل على تأكيد لإقامة عاشوراء من قبل الدول الزيدية، سواء كانت باليمن أو سواها عبر التاريخ، وما يجري بمنطقة صعدة اليمنية، حيث الحركة الحوثية اليوم، شيء آخر.

أما الدولة الصفوية فكانت قضية الحسين مركزية لديها لتأسيس جيش مذهبي يُقابل الجيش العثماني، وقد أسست لمظاهر في عاشوراء لم تكن معروفة من لدن محبي الحسين، فقد كان الحزن، لدى الشيعة الإمامية بالذات، حزناً نبيلاً خالياً من المصالح، ويمكن اعتبار ما بين تشيع سليمان بن صرد الخزاعي (قتل 65 هـ) وتشيع المختار بن عبيد الله الثَّقفي (قُتل 67 هـ) مثالاً لما بين التشيعين، بين رفع راية الحسين لذاتها ورفع رايته لغاية في نفس رافعها.

لم يكن ابن صرد طالباً لسلطة أو جاه باسم الحسين، إنما أراد البراءة من تخلفه عن نصرته في ظرف عصيب، فعُرف بأمير التوابين. هنا تُوهمنا عداوة الثقفي للخزاعي أمراً، فكان laquo;سليمان (ابن صُرد) أثقل خلق الله على المختارraquo; (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، المسعودي، مروج الذهب). لأن طموح الأخير كان السلطة قبل النصرة. هذا هو الفرق بين الحزن على الحسين لأجله، وإظهار الحزن عليه لغرض laquo;يقضونه وأداةraquo;.

لسنا من أصحاب التعميم، ونعتبر كل صاحب سلطة أو منصب يطلب غاية في إظهار الحزن على قتيل كربلاء، لكن ما يُحسب على صاحب السلطة الباكي جهاراً والرافع للعلم الأسود في عاشوراء أنه يتخذ الحسين منبراً ولا يتخذه سيرةً! ومثلما تقدم لا عتب على دولة فاطمية أو سلطنة بويهية، وحتى الصفوية، على الرغم من تكريس الأخيرة لمصيبة الحسين خارج العقلانية، ورفعه رايةً في حروبها، وإيذاء الآخرين بعذاباته.

نقول لا لوم حتى على الصفوية لأنها دولة، كغيرها من معاصراتها، بُنيت سياستها على المُلك العضوض، تستغل أي شيء من أجله، وهي لم تدع تطبيق سبيل الحسين حسب ما يُتلى من سيرته على منابرها، وليس لمخلوق محاسبتها على نهجها، بمعنى أنها لا تثير الشكوك لأنها صريحة في قولها وفعلها.

لقد وظف صدام حسين (أعدم 2006) نفسُه آل علي عندما أشهر شجرة العائلة بأنه من أحفاده، ووظف الدين في حملته الإيمانية التي دُشنت بحدود العام 1994 بقرارات وإجراءات معروفة، وهي من القرارات التي احتفظ بها اللاحقون لإسلاميتها، مثل احتفاظهم براية دولته (العلم) لأنها تعبر عن طموحهم الإسلامي السياسي. لكن فات صدام حسين، أو عف عن ذلك، أنه لم يتبن مناسبة عاشوراء، فلو وقف على شرفة القصر الجمهوري لاطماً صدره، وباذلاً الطعام، مثلما هو مبذول الآن، لسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الإسلامية، لأنها اتضحت بلا برنامج ولا خطة للمستقبل، سوى فتح باب عاشوراء على مصراعيه، وكأنها تقول للناس: لكم اللطم ولنا الحكم.

هذا المشهد بدا واضحاً بعد أبريل 2003 مثلما كان في المعارضة، لأن السياسي، أو الحزبي بالذات، لا يكون خالياً من الغرض مع عاشوراء، فالحرص على التقاط الصور، عند لطم الصدور أو طأطأة الرأس مع النحيب، ولبس السواد، والوقوف لسوط الطعام في القدور، وحمل أباريق الشاي لسقي المواكب، كلها حركات غير بريئة والبلاد على أبواب الانتخابات. فينقل عن أحدهم أنه بدأ مع موكب المشائين، وبعد التقاط الصورة لبثها في الفضائية غاب عن الأنظار، إنهم المدعون المتلفعون بعباءة الحسين. وللجواهري في laquo;آمنتُ بالحسينraquo; (1947) التي كُتب منها على باب ضريحه: laquo;وقدَّستُ ذكراك لم أنتحل/ ثِياب التُّقاةِ ولم أَدعِraquo;.

هنا تحول الإمام الحسين إلى دعاية انتخابية، ولا يفهم تعاطف هذا السياسي أو ذاك مع عاشوراء، وإن كان صحيحاً، خارج الانتهازية لاستغلال مشاعر الناس، فعندما يكون الحزن على الحسين أمام الكاميرات يصبح تمثيلاً في تمثيل، وكم من ممثل يعيش الدور المنوط به، وبقدر ما يتمكن من ذلك يشار إليه بالممثل البارع. لكن هؤلاء لم يجيدوا الدور، وأرى في طريقتهم استخفافاً بالعقول، وقد تمرُّ على البسطاء، لكنها لا تمر على الحسين، لأنه جرّب مثل هؤلاء القوم، laquo;إن قلوب النَّاس معك وسيوفهم عليكraquo; (الأصفهاني، مقاتل الطَّالبيين). فالسيوف التي قتلت الحسين هي نفسها اليوم تستغل آلامه من أجل الفوز باسمه والعمل ضده.

لقرون والعراقيون يبكون الحسين وينصبون المآتم له، لكن أمام ضمائرهم لا أمام الكاميرات، الكذب باسم الحسين وانتهازه اليوم يُعادل السَّيف ضده في الأمس. إنها صورة كاريكاتيرية أن تُشترى السلطةُ بقدح شاي وصحن طعام، ثمنهما مأخوذ مقدماً من هؤلاء المُصدق عليهم باسم الحسين، وإله الحسين يعرف مَن هم الشُّراة! نعود إلى الجواهري: laquo;لعلَّ السِّياسة فيما جَنَت/ على لاصقٍ بكَ أو مدَّعيraquo;! والمُدعي مَن نرى ونسمع!