غازي العريضي

استكمالاً لحقيقة أميركا وعلاقاتها مع إيران، بل وتعاونها معها في مراحل سابقة يتبين ممّا أوردته مجلة quot;نيويوركرquot; الأميركية أن تعاوناً وثيقاً تم بين الأميركيين والإيرانيين قبل احتلال أفغانستان، وفي مرحلة التحضير للحرب عليها تماماً كما حصل في العراق.

المجلة تقول: quot;خلال الأيام الفوضوية التي تلت اعتداءات 11 سبتمبر سافر quot;ريان كروكرquot;، الذي كان أصبح أحد كبار مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية إلى جنيف، للقاء مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيينquot;. وقال كروكر: quot;سافرت يوم الجمعة وعدت يوم الأحد وكانت عطلة نهاية الأسبوع فلم يعلم أحد في الوزارة أين كنت. كنا نسهر طيلة الليلة خلال اجتماعاتناquot;. كان quot;قاسم سليمانيquot; كبير المفاوضين الإيرانيين الذي سلّم لكروكر ذات ليلة خريطة تفصيلية عن مواقع قوات quot;طالبانquot;، وقال: quot;هذه نصيحتنا أضربوهم هنا أولاً ثم انتقلوا إلى هنا.. هذا هو المنطقquot; وتوجه quot;كروكرquot; والمندهش بسؤال: quot;هل باستطاعتي تدوين ملاحظاتquot;؟

فأجاب المفاوض:quot;يمكنك الاحتفاظ بالخريطةrdquo;! وقال quot;كروكرquot; إنه في مرحلة معينة أعطى نظراؤه الإيرانيين موقع أحد المخبرين من quot;طالبانquot;، يعيش في مدينة مشهد في شرق إيران. اعتقله الإيرانيون وسلّموه إلى قادة أفغانستان الجدد الذين قاموا بتسليمه إلى الولايات المتحدة! وعندما أعلن بوش الابن quot;محور الشرquot; وأساسه بالطبع إيران، توقف التعاون حتى يعود في لحظة معينة عندما أسمع quot;كروكرquot; كبير المفاوضين الإيرانيين ما يعزيه: quot;نحن ذاهبون إلى العراقquot;! وهنا بدأ التعاون في موضوع العراق واحتلاله، كما ذكرنا سابقاً.

وبعد انهيار نظام صدام، أوفد quot;كروكرquot; إلى بغداد ليساعد على تنظيم الحكومة الوليدة التي سميت مجلس الحكم العراقي. كانت فرصة للتشاور مع سليماني مباشرة. قرر quot;كروكرquot; حسب quot;نيويوركرquot; أسماء المرشحين المحتملين وكان الرجلان يدققان في كل اسم منهم. لم يعترض quot;كروكرquot; على أي اسم، بل كان يستثني مباشرة اسم الشخص الذي كان سليماني يعترض عليه. وقال: quot;كان تشكيل مجلس الحكم بروحيته مفاوضات بين طهران وواشنطنquot;! وفي مرحلة لاحقة، كان تبادل الرسائل مباشراً بين الجنرال quot;بترايوسquot; قائد القوات الأميركية في العراق وسليماني. وأحياناً غير مباشر من خلال الرئيس جلال طالباني الذي اطلع بترايوس على رسالة نصية موجهة إليه عبر هاتف الرئيس من الجنرال سليماني: quot;عزيزي الجنرال بترايوس، يجب أن تعلم أني أنا قاسم سليماني يدير سياسة إيران في العراق، لبنان، قطاع غزة وأفغانستانquot;. وفي مرحلة تشكيل الحكومة الحالية برئاسة المالكي، وكان الاسم المرجح إياد علاوي، قرر الإيرانيون أن يكون المالكي وقبل الأميركيون، الذين أبلغوا علاوي من خلال نائب الرئيس جو بايدن: quot;لن تستطيع تشكيل حكومةquot;. علاوي قال: quot;كنت أحتاج للدعم الأميركي. لكنهم كانوا يريدون المغادرة وسلّموا البلد للإيرانيين. أصبح العراق دولة فاشلة اليوم، مستعمرة إيرانيةquot; وخذله حلفاؤه!

وثمة من يقول إنه في الوقت الذي تمّ فيه التفاهم على حكومة برئاسة المالكي وتم إقناع سوريا بذلك، وهي التي لم تكن تريد المالكي أبداً، الذي كان يريد أخذها إلى محكمة دولية متهماً إياها بإرسال quot;الإرهابيينquot; إلى العراق، وكانت تريد علاوي، في هذا الوقت كان تفاهم أو تواطؤ أو غض نظر - كما يُقال- عن حركة ما يجري في لبنان تقضي بألاّ يكون الحريري رئيساً للحكومة. وهذا ما حصل لاحقاً وبعد أشهر. تكرّس التفاهم الإيراني - الأميركي، وسقطت محاولة التفاهم السعودي- السوري، الذي دوّخ العالم في ذلك الوقت، ووصلنا لاحقاً إلى ما وصلنا إليه في لبنان!

وفي لبنان، وفي الحديث عن حقيقة أميركا، أقف عند محطة أو محطات في سياق تجربة عشنا مرارتها بين عامي 2005 - 2008، ولا تزال نتائجها تتوالى فصولاً حتى الآن!

عام 2005، في فبراير، استشهد الرئيس رفيق الحريري، الشخصية السياسية الاستثنائية، العربية، والسنّية، وذات العلاقات الدولية الواسعة، وقنوات الاتصال الممتدة في كل الاتجاهات. مسيرة الحريري طويلة، لكن، اغتياله جاء في سياق معين، وبعد سلسلة من المواقف والتصريحات والتعبئة وسيل من الاتهامات له بالعمل ضد سوريا وامتداداً ضد إيران، يريد إخراج سوريا من لبنان، يسعى مع علاوي إلى تعاون وثيق، يلعب دوراً على الساحة العراقية، يساهم في تركيب الدستور الفلسطيني. والاتهام الأبرز أنه رجل أميركا وفرنسا. ومواقف الأميركيين والفرنسيين - أيام بوش وشيراك كانت متشددة ضد سوريا وإيران - المهم، ليس سراً القول إن الأميركيين دفعوا كثيرين في هذا الاتجاه، حرضّوا، عبؤوا، وعدوا، وعدوا حتى بالتدخل المباشر والتدخل غير المباشر في محطات كثيرة. طلبوا إلى الحريري أخذ الحيطة والحذر بعد محاولة اغتيال مروان حماده، ولكن في الوقت ذاته كانوا يطمئنون: لا يجرؤ الآخرون على فعلها.

لعبوا اللعبة حتى النهاية، اندفعوا إلى أبعد الحدود. كان quot;جيفري فيلتمانquot; سفير واشنطن في لبنان رمزاً من رموز هذه العملية ولا تزال الاتهامات والتسريبات والمعلومات والأسرار المكشوفة تلاحقه وتتحدث عن دوره في تلك المرحلة. أذكر يوم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونحن نغادر منزله، وكنا أول الواصلين إليه، كنت برفقة الزعيم الوطني وليد جنبلاط، وصل فيلتمان، خرج من السيارة، وقال بذهول:

Oh Walid: What can we do

صعقت شخصياً عندما سمعت هذا الكلام. أقدّر الذهول والمفاجأة. ولكن هل يمكن أن نُسأل نحن ماذا يمكن أن نفعل؟ الذي كان يعرف كل الأمور والأسرار، ويتحرك في كل الاتجاهات في سياق سياسة معينة وباتجاه هدف معين، هل يسأل ماذا يجب أن يفعل بعد حصول الكارثة؟ كنت ضد السياسة الأميركية، وكانت لي ملاحظات كثيرة على الفريق السياسي الذي بات يسمّى لاحقاً ldquo;14 آذارquot;، إثر اغتيال الرئيس الشهيد. وكنت على نقاش دائم مع كل قياداته أعبّر عن عدم الثقة بالأميركيين. أدعوهم إلى الانتباه إلى عدم الاندفاع غير المدروس، لم يكن ثمة ارتياح في أمكنة كثيرة لهذا الموقف، كان البعض مطمئناً إلى أن أميركا ستتدخل مباشرة وستضرب هنا وهناك. وانتظر كثيرون الطائرات فوق سوريا والبوارج في البحر، وكنت ازداد قلقاً وأعبّر أكثر عن عدم قناعتي وخوفي من مثل هذه الرهانات. وكان يسقط الشهيد تلو الشهيد، وتتوالى الخسائر والأثمان الكبيرة التي ندفعها وعملياً لا نرى شيئاً من quot;العنترياتquot; وquot;البطولات الكلاميةquot; والوعود. وكنت أسأل الجميع: ماذا علينا أن نقدّم أكثر مما قدمنا؟ ماذا بإمكاننا أن نفعل أكثر مما فعلنا؟ وللحقيقة والأمانة جمهور 14 آذار استثنائي، الناس أوفياء. تواقون إلى التغيير، فعلوا كل شيء، قدّموا كل شيء، مستعدون لتقديم كل شيء، لكن ماذا قدّم لهم فعلياً؟ وكنت أناقش السفير quot;فيلتمانquot; في جلسات معينة، وكان هذا رأيي وكنا دائماً نختلف، وإن كنت أسجل له حرصه على الاستماع إلى الرأي الآخر واستمرار التواصل. لكن في أكثر من مكان كنت أسمع الجواب الدائم: What can we do. أي ماذا بإمكاننا أن نفعل؟ والمعلومات والروايات والأحاديث تطول حول تلك المرحلة. لكن كنت في كل الحوارات وعند تناول الموقف الأميركي خصوصاً والغربي عموماً أعود إلى السؤال المذكور وتتعزز قناعتي بالحذر والقلق على الأيام المقبلة، وكررت أكثر من مرة أنني سأكتب مقالاً بعنوان What can we do. لم أفعل ذلك في تلك المرحلة. ها أنا أفعلها اليوم بعدما سمعت وقرأت وشاهدت من ينتقدون السياسة الأميركية اليوم، أو يعلنون مفاجأتهم من ذهاب أميركا إلى إيران، أو يستغربون الموقف الأميركي من سوريا ونظامها... هي اللعبة ذاتها. وكتبت سابقاً أن أميركا لم تكن تريد محاربة سوريا وإيران. استغلت كل شيء للتفاوض معهما. وأن المستهدف هو البيت العربي الأوسع والواقع السُنّي الذي يعتبر الأخطر من وجهة النظر الإسرائيلية والأميركية لا سيما بعد انطلاق ثم نمو موجة ما كانوا يسمونه الأصولية، ثم باتوا يسمونه الإرهاب، وهم مسؤولون في النهاية عن كثير من موجات التطرف في المنطقة والعالم لأنهم لم يجدوا حلولاً عادلة لقضايا شائكة خطيرة لا سيما في منطقتنا وللقضية الفلسطينية، واعتمدوا سياسة التفرقة والانقسام وتفجير الفتن المذهبية والطائفية. وللأسف وقع قادتنا، ووقع بعض مجتمعاتنا فيها إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من مخاطر كبيرة. عرب مفككون، غير موجودين. فتن مذهبية هنا وهناك، خطر من الإرهاب في الدول العربية- السُنّية. إرهاب يستهدف الجميع، كما يظهر من ممارسات على الأرض، وكما يرّوج في الكواليس والعلن وعلى الشاشات، وفي السياسات وأميركا لأسباب كثيرة تريد حواراً مع إيران التي تدعو بدورها إلى مواجهة الإرهاب. وأميركا أجابت نفسها عن سؤال: ماذا بإمكاننا أن نفعل؟ وجدت أنه لا بد من حوار مع إيران أو تفاهم أو تنسيق، فعلت دون علم حلفائها العرب. فاجأتهم! وإسرائيل تأخذ الكيماوي السوري - بالمعنى السياسي للكلمة - دون حرب، وتتطلع إلى مكاسب سياسية من النووي الإيراني، والفوضى تعم المنطقة!

علينا نحن ولو متأخرين أن نطرح السؤال على أنفسنا What can we do انطلاقاً من قناعتنا بأن أميركا وغيرها، الكل يبحث عن مصالحه. وأميركا خصوصاً لا يمكن الوثوق بها. هل نفعلها؟ هذا هو الفعل الأول. وبعده نحن قادرون على فعل الكثير، على الأقل لوقف التدهور والحدّ من الخسائر، لا يزال لدينا الوقت، ولا تزال لدينا الإمكانات الكبيرة، المهم أن تعيد النظر في كثير من الممارسات والسياسات وأن نذهب إلى التعامل مع المعادلات القائمة اليوم بواقعية وأن ندخل إليها لنؤثر فيها، ونكون فاعلين، وليكن حوار بين العرب وإيران صريح واضح حول كل القضايا والهواجس والأفكار والمشاريع، ولتبق فلسطين قضيتنا.