زيد حمزة

ما زلنا نصاب بالدهشة كلما قرأنا كتاباً صادراً في بريطانيا أو أميركا يشرح بالتفاصيل والوثائق والمراجع أجزاء من تاريخنا المعاصر، وما زلنا نغلي حنقاً كلما اكتشفنا فيه ما لم نكن نعرفه أو ما لم نكن قادرين - حتى لو عرفناه - أن نكتب عنه او نعلق عليه ولو من باب الاستفادة من العبر!
ومازلنا نسخر كيف تحجب عنا حقائق ووقائع مضى عليها زمن طويل، بل أطول بكثير مما يحدده قانون اي بلد يرى ضرورة إخفائها لاسباب تتعلق بالأمن القومي، وكأن هذا الأخير له عندنا خصوصية مختلفة عن كل بلاد العالم لتبقى كثير من المعلومات أسراراً لا يشفع للافراج عنها واستخراجها أن أصحابها قد رحلوا عن الدنيا لأن محترفي إخفاء الحقائق يتوهمون أنهم قادرون على دفنها وتغييبها عن التاريخ..
من تلك الكتب التي اشرت اليها واحد من تأليف جيمس بار James Barr الصحفي البريطاني الذي عمل لفترة طويلة في الديلي تلغراف وهو بعنوان (خط على الرمال) A Line in The Sand ويعني به الخط الذي قسم البلاد العربية في اتفاقية سايكس بيكو (1916) التي قرأنا الكثير عنها وعن هذا الجزء من تاريخنا لكنا ما زلنا نتعرف على معلوماتٍ حجبت عنا لعشرات السنين.
ففيه مثلاً السيرة الذاتية الحقيقية لكل من السير مارك سايكس كبير مستشاري الحكومة البريطانية في شؤون الشرق الاوسط على مدى اربع سنوات بدأت في عام 1915، والسياسي الفرنسي المسيو فرانسوا جورج/ بيكو الذي كان في تلك الفترة نفسها يسري في دمه الايمان بأن للاستعمار الفرنسي رسالة إلهية (!) تقضي بتمدين البلاد الأخرى خصوصاً تلك الاجزاء من أفريقيا التي ليس لها (سيد) يحكمها!
وفيه يتحدث المؤلف بصراحة عن موظفة المخابرات البريطانية غيرترود بل (الخاتون) ودورها الهام في منطقة ما بين النهرين التي أصبحت تحمل اسم مملكة العراق، ويتحدث مطولاً عن توماس إدوارد لورانس وعلاقته بثورة الشريف حسين وما تلاها، والروابط الوطيدة التي جمعته بابنه الأمير فيصل اذ ظل يرافقه حتى أصبح ملكاً على سوريا قبل أن تستشيط فرنسا غضباً على حليفتها بريطانيا واعتراضاً عليه وتنجح في إزاحته عن الحكم !
وكيف داهمت لورنس آنذاك حالة من الاحباط نتيجة لمواقف بلاده نحو العرب بدءاً من نكثها العهد مع الشريف حسين لتوحيدهم تحت ملكه وذلك بعقدها في السر اتفاقية سايكس بيكو لاقتسامها مع فرنسا، ثم اطلاقها وعد بلفور بانشاء دولة يهودية في فلسطين، ما أدى الى انزوائه وابتعاده عن المجتمع ورفضه المدوي لوسام الفارس الذي منحه إياه ملك انجلترا حيث كتب معللا ( إن شرف بريطانيا قد ثُلم بعدم وفائها للعرب، كما أن خيانتها لهم في سوريا (يقصد التخلي عن فيصل) لحساب فرنسا سيبقى لطخة في صفحات تاريخها).
ولم يبدأ الخروج من كآبته إلا عندما اتصل به في 4 /12 /1920 السكرتير الخاص لونستون تشيرتشل وزير المستعمرات بعد ما أُخمدت ثورة العشرين يدعوه للعمل معه من اجل إنشاء حكومة في منطقة ما بين النهرين ترضي طموح العرب وتؤمّن المصالح الاستراتيجية لبريطانيا وذلك على اساس جلوس الملك فيصل على عرش العراق فانشرح صدره وعاد ليمارس نشاطه ليل نهار..!
وبعد فبين سطور العينة البسيطة السابقة وكذا في آلاف صفحات تلك الكتب ما خفي من أسرار الصراع بين القوى الاستعمارية لاقتسام الغنائم كما يحدث عادة بين اللصوص، ثم الخداع اللا أخلاقي الذي تعاملت به في الماضي مع شعوبنا الضعيفة المتخلفة، ما يفتح أعيننا على تلك القوى التي وإن تبدلت اسماؤها وأساليبها فانها تستهدف الآن ثوراتنا العربية الجديدة.. وبشراسة.