فهمي هويدي

الأمن بنفوذه الكبير في مجال الإعلام فرض رؤيته وبات الآن في الموقف الأقوى

الحدث ضاعف من انفعال الطلاب وتضامن معهم الأساتذة الذين ألغوا المحاضرات وأصدروا بيان الإضراب


الخرطوش الذي استهدف متظاهري جامعة القاهرة هذا الأسبوع أسقط حاجز الصمت الذي فُرض على ممارسات المؤسسة الأمنية منذ قامت الثورة واستدعى ملفَّها المطموس والمسكوت عليه.

(1)
كان الشاب محمد رضا يقف في فناء كلية الهندسة مع آخرين متفرجا على مظاهرة زملائه في فناء كلية الهندسة الذين خرجوا يوم الخميس 11/28 تضامنا مع أقرانهم في بعض كليات الجامعة، وكان هؤلاء قد عبَّروا عن احتجاجهم على قانون منع التظاهر ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية وغضبهم ازاء الحكم على 14 فتاة بالاسكندرية بالسجن مدة 11 عاما، ولم تكن تلك المظاهرات بعيدة عن مثيلاتها التي اتجهت الى مقر مجلس الشورى خلال الأسبوع ذاته متبنية نفس الشعارات والهتافات، وتخللتها اشتباكات مع الشرطة التي تصدت لها، لم يُعرف عن محمد رضا البالغ من العمر تسعة عشر عاما ان له نشاطا طلابيا ولا لونا سياسيا، ولكنه كان منصرفا الى دروسه ومتفوقا على أقرانه، الأمر الذي جعله يحتل الترتيب الثالث على ثلاثة آلاف طالب بالسنة الاعدادية، قبل ان ينتقل الى السنة الأولى بقسم المدني، ولم يكن يحلم بأكثر من ان يصبح معيدا في الكلية ومبتعثا للحصول على شهادة الدكتوراه، الا ان القدر كان يعد له مصيرا آخر، ذلك أنه تلقى طلقات من خارج الكلية أسقطته على الأرض على الفور، كما أصابت ثلاثة من زملائه، وقد فشلت جهود الطلاب الذين حاولوا انقاذه وسط الهرج الذي ساد المكان، ففقد محمد رضا حياته ونقل زملاؤه الى مستشفى قصر العيني، حيث تبين ان أحدهم (اسمه جمال عصام الدين) فقد عينيه وفي حالة خطيرة.
الحدث فجر غضب الطلاب وضاعف من انفعالهم، وتضامن معهم الأساتذة الذين ألغوا المحاضرات وسارعوا الى اصدار بيان وقعه 135 منهم أعلنوا فيه الاضراب عن العمل ابتداء من السبت 30 نوفمبر، ودعوة زملائهم في الكليات الأخرى الى تعليق العملية التعليمية بعدما laquo;أصبح استمرارها متعذرا في ظل الترهيب الأمني وانتهاك حرمة الجامعة واطلاق القنابل والخرطوش على الطلاب داخل كلياتهمraquo;، كما طالبوا بالتحقيق فيما جرى ومحاكمة المسؤولين عن قتل الطالب وترويع المتظاهرين، أو باعتذار وزارة الداخلية عن سلوك رجالها، ودعوا الى ابعاد قوات الأمن ومدرعات الجيش عن محيط جامعة القاهرة، والى الغاء قرار مجلس الوزراء الذي يسمح لتلك القوات باقتحام الجامعة الأمر الذي ينتهك استقلالها، وختموا بيانهم بالمطالبة باطلاق سراح طلاب الجامعة وأساتذتها بضمان محال اقامتهم.

(2)
أثبت الطبيب الشرعي ان محمد رضا قتل بطلقات أصابت عنقه وقلبه وأدت الى قتله، وعلق وزير التعليم العالي الدكتور حسام عيسى على الحادث بقوله انه سأل وزير الداخلية الذي أبلغه بأن الشرطة لم تستخدم الخرطوش في التعامل مع المتظاهرين، ثم قال في تصريح آخر انه لا يستبعد ان يكون طلاب الاخوان هم الذين قتلوه، وكان ذلك التصريح بداية الاتجاه الى تلبيس التهمة للاخوان الذين لم يرد لهم ذكر في القصة من بدايتها، وخرجت علينا صحف الأحد 12/1 برواية جديدة للمشهد ذكرت ان تحقيقات النيابة توصلت اليها خلاصتها ان الطالبات المنتميات الى جماعة الاخوان ساعدن زملاءهن الذين انخرطوا فيما سمي laquo;طلاب ضد الانقلابraquo;، حيث قمن بتزويدهم بالسلاح والخرطوش الذي تم اخفاؤه في أكياس من البلاستيك وضعنها في طيات ملابسهن وأنهن خرجن من الحرم الجامعي فور اشتعال الاشتباكات بين الطلاب وقوات الأمن.
في الوقت الذي بدأ التحقيق يتجه فيه الى ذلك المنحى حدثت مفاجأة لم تكن في الحسبان، اذ صدر بيان باسم جامعة القاهرة وقعه رئيس الجامعة الدكتور جابر نصار ذكر ما يلي: تدين جامعة القاهرة بشدة قيام أجهزة الأمن بالاعتداء المباشر على الجامعة وكلية الهندسة. حيث تم اطلاق قنابل الغاز والخرطوش الى داخل الجامعة والكلية من خارجها، مما أدى الى استشهاد أحد طلاب كلية الهندسة، الشهيد محمد رضا داخل أسوار الكلية واصابة آخرين من الطلاب وأفراد الأمن بالجامعة، ان ما حدث أمر غير مقبول على الاطلاق، ويتحمل مسؤوليته الأساسية بعض أجهزة الأمن التي تجاوزت كل الحدود، حين تعمدت تعقب الطلاب حتى بعد دخولهم الى الجامعة، وهو ما سوف يتم توثيقه بشهادات الطلاب والصور والفيديوهات، وسوف تشكل لأجل ذلك لجنة من المختصين، كما ستكلف الجامعة فريقا قانونيا لمتابعة الأمر، وابلاغ الجهات الرسمية لمحاسبة من اقترف هذا الجرم، الذي لن تتسامح فيه الجامعة، وتطالب الجامعة بالافراج الفوري عن طلابها، وذلك لتمكينهم من اللحاق بدراستهم والاسراع بتجلية حقيقة مواقفهم القانونية واعلان ذلك في أقرب وقت.

(3)
فاجأنا ذلك الموقف الشجاع، لأن الصورة النمطية المستقرة في أذهاننا ان القيادات التي تحتل أمثال تلك المواقع تتسق دائما مع الأجهزة الأمنية، التي تعرف أنها كانت يوما ما صاحبة كلمة في تعيينهم، وهي صورة لم تختف تماما في الوقت الحاضر، آية ذلك أننا وجدنا ان الأجهزة الأمنية اقتحمت المدينة الجامعية لطلاب الأزهر بعد المظاهرات التي خرجت في بعض كليات الجامعة، وفي اقتحامها قتلت طالبا بكلية الطب يدعى عبدالغني محمد حمودة، كما اعتقلت 17 طالبا ليس لهم أي انتماء سياسي، بينهم ثلاثة في السنة النهائية بكلية الطب، ولم يسمع أحد بما جرى، ولم يرتفع صوت في الجامعة يستنكر اقتحام المدينة الجامعية أو قتل طالب الطب.
موقف الدكتور جمال نصار يحسب له، وهو الذي تولى رئاسة الجامعة بعد انتخابه من أساتذتها، ومن ثم فليس لأحد فضل في تعيينه، ذلك ان البيان الذي أصدره يضيف صفحة يعتز بها سجل استقلال الجامعة، ولست أشك في ان ذلك الموقف كان له دوره في تشجيع أعضاء هيئة التدريس على الانحياز الى صف حرمة الجامعة وحماية طلابها، ليس في حدود جامعة القاهرة فحسب، لأن تلك الروح سرت في أوساط المحيط الجامعي في مختلف أنحاء البلاد، حيث تضامنت اتحادات طلاب الجامعات مع زملائهم في جامعة القاهرة، في ضرورة التحقيق في قتل طالب الهندسة واعتداءات الشرطة على حرمة الجامعة، وقيل لي ان فعاليات ذلك التضامن مستمرة طوال هذا الأسبوع على الأقل.

(4)
حدث جامعة القاهرة مهم في ذاته وفي دلالته، أعني ان غضب الجامعة لانتهاك حرمتها والعدوان على استقلالها، وجرأة رئيس الجامعة وأساتذتها وطلابها في مواجهة القمع الذي مارسته المؤسسة الأمنية، هذا المشهد مهم في حد ذاته لما اتسم به من غيرة وجرأة، في الوقت ذاته فانه يستدعي الى الأذهان سجل الأحداث التي تلاحقت أثناء الثورة وبعدها، والتي تم تناولها من خلال قراءتين لا تختلفان كثيرا عن الكيفية التي تم بها التعامل مع ما جرى في كلية هندسة جامعة القاهرة، ذلك أننا في الحالة الأخيرة صرنا بازاء شهادتين احداهما جامعية تتهم الأجهزة الأمنية والأخرى أمنية تبرئ الداخلية وتتهم الاخوان، وذلك بالضبط، جرى مع الأحداث التي تلاحقت في أثناء ثورة 25 يناير وفي أعقاب نجاحها، دليلي على ذلك أشرت اليه من قبل ولا أقل من لفت الانتباه اليه، وهو يتمثل في الجهد الكبير الذي بذل لتقصي حقائق تلك الأحداث، والذي أشرف عليه نفر من أهم وأبرز رجال القضاء والقانون في مصر، الذين استعانوا بفريق من المحققين والخبراء، وقام هؤلاء بتوثيق تلك الأحداث في مرحلتين، مرحلة الثورة التي امتدت من 25 يناير الى 9 فبراير من عام 2011 وقد رأس اللجنة التي تولت تقصي حقائقها المستشار الدكتور عادل قدرة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض وقد جاء تقريرها في 400 صفحة سلمت ثلاث نسخ منه يوم الاثنين 18 ابريل عام 2011 الى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الحكومة آنذاك الدكتور عصام شرف والنائب العام الدكتور عبدالمجيد محمود.
المرحلة الثانية هي التي تولى فيها المجلس العسكري السلطة، وقد وقعت في ظلها أحداث عنف عدة، أصدر الرئيس السابق محمد مرسي قرارا بتشكيل لجنة لتقصي حقائقها برئاسة المستشار محمد عزت شرباص رئيس محكمة الاستئناف السابق، في شهر يوليو عام 2012، بعد أسابيع من تنصيبه، وقدمت اللجنة تقريرها الذي جاء في نحو 700 صفحة في شهر يناير عام 2013. والتقريران بالمناسبة يتضمنان كما هائلا من الوثائق والتسجيلات والشهادات، لكن أهم ما كشفا عنه كان توثيق ضلوع أجهزة الأمن في أهم - ان لم يكن كل - تلك الأحداث، وتم ذلك بتفصيل تجاوز العبارات التي تحدث بها رئيس جامعة القاهرة في توصيفه لما جرى في كلية الهندسة، وكما ان كلام الدكتور جابر نصار وضعنا أمام قراءتين لأحداث الجامعة واحدة تبناها هو ومعه أساتذة الجامعة، وأخرى أمنية تحدث بها وزير الداخلية ونفت مسؤولية الشرطة عن جريمتي القتل والاعتداء على حرمة الجامعة، فان المشهد تكرر على صورة أكبر وأخطر مع تقريري تقصي الحقائق، ذلك ان القراءة القانونية لوقائع المرحلتين ووجهت بقراءة أخرى أمنية برأت ساحة المؤسسة الأمنية وأخلت مسؤوليتها عن أحداث تلك الفترة، ولأن المؤسسة المذكورة هي الطرف الأقوى فانها نجحت في فرض رؤيتها بعدما مارست ضغوطها القوية لتجاهل كل ما توصل اليه القانونيون والمحققون، ليس ذلك فحسب وانما نجحت أدوات وأصابع الأجهزة الأمنية في كتابة تاريخ تلك المرحلة على نحو مختلف تماما عما توصلت اليه قراءة القانونيين، وترتب على ذلك ان تمت تبرئة ساحة الأجهزة الأمنية، وألقيت مسؤولية ما جرى على أطراف أخرى في مقدمتها البلطجية وميليشيات الاخوان وحركة حماس وحزب الله.hellip; الخ وهو ما دفعني الى القول ذات مرة بأن تلك الأجهزة لم تعد تصنع التاريخ في زماننا فحسب، وانما باتت تكتبه أيضا.
لا أعرف ما الذي ستسفر عنه المواجهة بين قراءتي الجامعة والأمن في أحداث كلية الهندسة، لكني لن أستغرب اذا فرض الأمن رؤيته ليس فقط لأن له سابق خبرة في قلب الحقائق واعادة تشكيلها على النحو الذي يشتهيه، ولكن أيضا لأنه بنفوذه الكبير في مجال الاعلام بات الآن في الموقف الأقوى الذي يتجاوز بكثير ما كانت عليه الصورة قبل سنة أو اثنتين.. ومن شأن استمرار ذلك الموقف ان يفلت قتلة محمد رضا وعبدالغني حمودة من الحساب والعقاب، ولا تسأل عن الشهداء الذين قتلوا في فض اعتصام رابعة أو النهضة أو غيرهم من أبناء الشعب الآخر الذين لا بواكي لهم.