يوسف الكويليت


من غير الممكن سد الفجوات بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة إلا بخطط وإرادات لديها الاستعداد أن تتجاوز نفسها مثلما فعلت دول جنوب شرق آسيا والصين ثم الهند مع أوروبا وأمريكا، غير أن الوطن العربي وحده الذي يعيش حالة استنزاف لعقوله قبل موارده، والقضية معقدة ومعروفة ولكنها ليست معروضة للحل..

في المملكة لدينا طاقات بشرية مستوردة وأخرى وطنية، ومعادلة الكفاءة بين الطرفين أصبحت تقوم على الجنسية فقط، بحيث إن الأفضلية تبقى للأجنبي وليس بالضرورة من أصول أمريكية وأوروبية، وإنما حتى بمن يحملون جنسيات تلك البلدان من آسيويين ولاتين وأفارقة وغيرهم، غير أن مأساتنا أن الكفاءة الوطنية حتى لو تجاوزت الأجنبي، فإن الأجور غير متساوية، لأن عقد الأجنبي، حتى لو كان بنصف تأهيل المواطن يرتبط برواتب عالية وامتيازات أخرى كالسكن والبدلات وتذاكر السفر وغيرها في حين أن المواطن يخضع إما لنظام العمل أو الموظفين وكلاهما عفا عليه الزمن..

صحيح أن وعياً قد نشأ بين الشركات والبنوك والمصانع بجلب الكفاءة الوطنية لكننا لا نزال نرى جيشاً من المهندسين والأطباء وأصحاب المهارات الأخرى بالحواسيب وغيرها، وكذلك خريجي الشريعة والقانونيين والتقنيين الآخرين، لا نجدهم على نفس الامتيازات التي يحصل عليها الأجنبي، حتى أن شركات المقاولات التي اشتهرت باحتكار مختلف النشاطات صار بعضها يفضل ابن جنسيته ولو بربع كفاءة المواطن لأنه لا يفشي الأسرار، وأحياناً يجلب لأجل الإحلال مكان المواطن، وقد جاءت شكوى الدوائر الحكومية، وخاصة وزارة الصحة والصناعة وبعض المؤسسات من هجرة الكفاءات ولكنها تشتكي ولا تبحث السبب حين يغادر طبيب استشاري، أو مهندس أو رجل إدارة ماهر، ليفتحوا عيادات، أو مكاتب استشارية لتدر عليهم أضعاف رواتب الدولة أو المؤسسات والشركات الأخرى..

هجرة الكفاءة أياً كان اتجاهها خسارة كبيرة، إذا علمنا أن الدولة علمت ودربت وابتعثت، ولكن الأنظمة ظلت متخلفة سنوات طويلة، حتى أن العروض للبارزين من المبتعثين من أبنائنا صارت دول عديدة تقدم لهم مغريات كبيرة وقطعاً ستكون المفاضلة بين عطاء الوطن وبلد المهجر هي المعيار للبقاء أو الهجرة، ولذلك فإن التفكير جدياً بإعادة النظر في الأنظمة، والرواتب والحوافز، لابد أن تأخذ اتجاهاً يتناسب وحجم هذه الكفاءات، وإلا سنصبح كشأن العالم الثالث الذي تم استنزاف كفاءاته حتى أن ما يوجد في بريطانيا وحدها من الأطباء والمهندسين العرب يعدون بمئات الآلاف، وقس عليها أمريكا وأوروبا وكندا وغيرها..

لقد تنبهت كثير من الدول على دور التنمية البشرية للدخول في مشروع التنافسية في العديد من المجالات، ونحن نجد من يفلسف أن الدولة تعلّم ولكنها لا توظّف، والموضوع ليس فقط الوظيفة، وإنما الإحلال الحقيقي بحيث يلتقي الاختصاص مع العمل، وما لم توضع خطط قريبة ومباشرة، فإننا سنجد حالة استنزاف سوف تضر بمشروعنا التنموي كله..