عبدالحميد الأنصاري


تقاتل السوريين في دمشق، وتسلح القاعدة والحوثيين في اليمن، وتتحكم في لبنان، وتهيمن على العراق، وتغذي الانقسام الفلسطيني عبر حماس، وتوظف الطائفية في البحرين، وتحتل الجزر الإماراتية، ولا ترضى بالتحكيم، تتسلل من الشباك من وراء أظهرنا وتتوغل في عمق البيت العربي، ثم ترسل وزير خارجيتها الباسم دائماً، يطوف على دول المنطقة يطمئنها: أمنكم من أمننا وأنتم جيراننا ولكم الأولوية، ولن نعقد صفقة على حسابكم، إنها إيران الإسلامية، الجارة المسلمة، أستاذة فن المراوغة الدبلوماسية.

تريد إيران اليوم أن تقنع الخليجيين بسلمية برنامجها بعد أن نجحت في إقناع الغرب وأميركا، كما تريد من الخليجيين أن يثقوا بحسن نواياها، وليس أمام الخليجيين إلا أن يرحبوا بالاتفاق المرحلي ويظهروا ارتياحهم، فصرح وزير خارجية البحرين بأن الاتفاق يصبّ في مصلحة استقرار المنطقة، وقالت السعودية: الاتفاق مقدمة لحل شامل إذا توافر حسن النوايا.
ماذا بوسع الخليجيين أن يفعلوا وقد رحب المجتمع الدولي كله بالاتفاق النووي المرحلي، كما رحب به حليفهم التاريخي الذي أشاد به واعتبره مقدمة لكبح جماح البرنامج النووي، مؤكداً أن إيران روحاني غير إيران نجاد، بل شبهه بعضهم بـquot;غورباتشوفquot; إيران! وأن الاتفاق الانتقالي بداية لحل كل مشاكل الشرق الأوسط تمهيداً لـquot;شرق أوسط مختلفquot;.
أوباما يصرح من البيت الأبيض: أوقفنا تقدم البرنامج النووي الإيراني، ووزير خارجيته كيري يصرح من أبوظبي مؤكداً: إن أي اتفاق مع إيران هو في مصلحة الجميع، وظريف وزير خارجية إيران يأتي مسرعاً ليؤكد من أبوظبي: أن بلاده تعطي أهمية فائقة للعلاقات مع الخليجيين وبخاصة مع دولة الإمارات، ولا ينسى أن يقدم في غمرة فرحة الإماراتيين بالأعياد تهانيه بمناسبة اليوم الوطني الثاني والأربعين، وفوز دبي باستضافة أكسبو 2020، ولا يكتفي الوزير المبتسم أبداً بذلك، بل يؤكد استعداد بلاده للتفاوض حول quot;أبو موسىquot;، مؤكداً أن هناك سوء فيهم لا غير، ويتقدم خطوة ليقدم دعوة الرئيس روحاني للشيخ خليفة بن زايد رئيس دولة الإمارات لزيارة طهران.
الآن: ما حقيقة السياسة الإيرانية؟ وهل فعلاً ستغير إيران سلوكها السياسي الخارجي، وهل تصبح دولة طبيعية كبقية دول العالم؟ وهل هي فعلاً مستعدة للتخلي عن برنامجها النووي بعد أن صرفت المليارات وتحملت تضحيات وعانى شعبها الويلات؟


هناك كثيرون عندنا وعند غيرنا يرون أن ثمة تغييراً حقيقياً في السياسة الإيرانية بمجيء روحاني، ويرجعون هذا التغيير إلى الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة وبخاصة في ظل شبح quot;الثورة الخضراءquot; التي لا يزال قادتها إما في السجون أو الإقامة الجبرية، إضافة إلى أن تمدد إيران في الإقليم في كل مواطن الصراعات، قد كلفها موارد طائلة كانت على حساب تنمية الداخل مما دفع الشعب الإيراني، وكما يقول الكاتب مصطفى فحص quot;هتف 18 مليون ناخب إيراني: عزة إيران قبل غزة ولبنانquot;، ويؤكد هؤلاء أن المرشد الأعلى خامنئي هو من يقود هذا التوجه ويرعاه ويدعمه بدليل وصفه عقد الاتفاق بأنه quot;توفيق إلهيquot;.
في المقابل، هناك أيضاً، كثيرون غير مقتنعين بجدية وصدقية النوايا الإيرانية، ويرون أن إيران لا يمكن أن تتخلى عن برنامجها الهادف إلى تملك السلاح النووي، لأنه أصبح عقيدة قومية ثابتة لجميع طوائف ومكونات الشعب الإيراني، ولا فرق بين المحافظين والمعتدلين في ضرورة تملك إيران للسلاح النووي، وهؤلاء يؤكدون أن إيران يمكن أن تتحمل كل العقوبات وتقدم كل التضحيات، لكنها لن تتراجع عن برنامجها النووي، كما أنها لن تتخلى عن دورها الإقليمي في المنطقة.
ويضيفون: إذا كانت إيران وفي ظل كل هذا الحصار والعقوبات وهي بلا سلاح نووي، أمكنها الصمود والتمدد في المنطقة ودعم وكلائها وتمويلهم وتسليحهم من غير أي تأثير للعقوبات على التزاماتها تجاه حلفائها ووكلائها في المنطقة، فكيف إذا رفعت العقوبات عنها وأصبحت دولة نووية؟! كما يؤكد هؤلاء: أن النظام الإيراني، نظام أيديولوجي، ومن طبيعية النظم الأيديولوجية أنها لا تستطيع التخلي عن اصطناع أعداء خارجيين لكي تستمر في شحن الشعب وتوحده خلف النظام الحاكم، فتخلي إيران عن أيديولوجيتها وأدواتها ووكلائها في المنطقة، يعني سقوطها وانهيار نظامها، نعم يمكن لإيران أن تقدم بعض التنازلات التكتيكية الهادفة إلى رفع العقوبات وتوفير السيولة النقدية لها، لكنها لن تتخلى لا عن برنامجها ولا عن سياساتها التدخلية.


ويبقى تساؤل أخير وهو الأهم: كيف نجحت إيران في استمالة حليفنا التاريخي والمجموعة الدولية quot;القوى الكبرىquot; إلى عقد صفقتها التاريخية، بينما عجز العرب؟! هذا ما ينبغي أن يشغلنا ويشغل المراكز البحثية عندنا وبخاصة المعنية بالدراسات الاستراتيجية والسياسية.


إن إيران لديها العشرات من المراكز والمؤسسات البحثية المعنية بالشأن الخليجي، وهي تمد صانع القرار السياسي الإيراني بخيارات واسعة من الحلول والبدائل، وهناك تفاعل بين متخذ القرار وهذه المراكز، بعكس الحال عندنا، إذ لا تجد توصيات ومرئيات المراكز البحثية الخليجية أي صدى لدى متخذ القرار الخليجي، بل لا تأثير للجهود البحثية والدراسات المضنية في القرار الخليجي العام.
وللأسف فنحن حتى الآن لا نعرف ديناميكية اتخاذ القرار السياسي في إيران كما نعرفها في أميركا، ولا نعرف أسلوب اتخاذ هذا القرار والمؤسسات التي يمر بها إلى أن يصل إلى quot;الولي الفقيهquot; كما يروج عندنا أن إيران يحكمها الولي الفقيه الذي يتخذ قراره منفرداً في غيبة عن المؤسسات والمراكز المتخصصة، وهذا من جملة أوهامنا مثل وهمنا بأن إيران تعتمد على البعد المذهبي في سياسها الخارجية ولا تتصرف كدولة قومية لها مصالحها التي قد تتعارض مع البعد المذهبيndash; وقد وضحناه في مقالتنا السابقة quot;اعرف جارتك المسلمة إيرانquot;.


حتى مراكزنا البحثية لا تُعنى بدراسة كيفية اتخاذ القرار السياسي في إيران، كما لا تُعنى بترجمة المؤلفات والدراسات الفارسية الحديثة، فضلاً عن أنها لا تستضيف أساتذة وباحثين من إيران، كما أن الدول الخليجية لا تهتم بتدريس quot;اللغة الفارسيةquot; في الجامعات ولا تشترط على سفرائها ومبعوثيها الدبلوماسيين إلى إيران، إلمامهم بالفارسية.


في تصوري أن هناك تفاعلاً واسعاً بين المسؤول السياسي والجهات البحثية، فإيران تعتقد أنها في معركة لتحقيق طموحاتها القومية وإعادة أمجادها التاريخية، ومن هنا فهي تهتم بالدراسات البحثية المتخصصة في الشأن الخليجي خاصة والعربي عامة، ولا تبخل في رصد الموازنات الضخمة لها، عندنا العديد من المراكز البحثية لكن لا فاعلية ولا تأثير لها في صنع القرار السياسي الخليجي، وكل المرئيات والتوصيات والدراسات مصيرها، الحفظ، فهل آن لنا أن نعيد النظر في كثير من تصوراتنا عن إيران؟!