سعود كابلي

الرأسمالية واقتصاد السوق الحر يتطلبان أن يتطور النظام السياسي لكي يتواءم معهما. في المقابل فإن التجربة التاريخية أثبتت أن محاولة النظم السياسية الحجر على آليات السوق الحر تقود لسلسلة من الفشل الاقتصادي


عندما حل الربيع العربي في المنطقة، رأى عدد من المثقفين في العالم أن هذا الأمر يمثل quot;الموجة الرابعة من الديموقراطيةquot;، وذلك استنادا لأطروحة عالم السياسة الأميركي صامويل هنتنجتون في بداية التسعينات حول ما أطلق عليه الموجة الثالة للديموقراطية (Third Wave Democracy). وتشير الفكرة باختصار إلى موجة الديموقراطية التي عصفت بعدد من البلدان النامية، بدءا من الثمانينات الميلادية في دول أميركا اللاتينية مرورا بدول أفريقية ودول جنوب شرق آسيا وانتهاء بسقوط الاتحاد السوفيتي وتحول دول أوروبا الشرقية إلى دول ديموقراطية. لقد مثلت تلك الموجة وسقوط الاتحاد السوفيتي إيذانا بانتصار الرأسمالية على الشيوعية وانتهاء الحرب (الأيديولوجية بالأساس) بين القوتين العظميين في العالم.


إن الديموقراطية كنظام سياسي هي في جوهرها تعبير عن إرادة اقتصاد السوق الحر في إيجاد صيغة تنظيمية للدولة والمجتمع (ولا علاقة لهذا الأمر بالمبادئ الإنسانية لليبرالية التي كان لتطورها الفكري مسار آخر اندمج لاحقا بالديموقراطية). الولايات المتحدة ndash; على سبيل المثال ndash; بعيد استقلالها كانت تحصر حق الانتخاب في الرجال البيض أصحاب الأملاك فقط حتى عام 1820 عندما بدأ الرئيس أندرو جاكسون بتوسيع حق الانتخاب ليشمل كل الرجال البيض فيما عرف quot;بالديموقراطية الجاكسونيةquot; (Jacksonian Democracy)، ولم تحصل المرأة على حق الانتخاب إلا في عام 1920 والزنوج والأقليات في عام 1965.
إن تطور مفهوم الديموقراطية على مدى هذه المحطات التاريخية لم يكن محصورا في البعد الإنساني الليبرالي لها، بقدر ما كان أيضا مدفوعا بتطورات اقتصاد السوق الحر والقوى المحركة له (Economic Forces). الديموقراطية الغربية لم تظهر إلا مع الثورة الصناعية التي أطلقت يد الرأسمالية ومفهوم الثروة الخاصة وأضعفت في المقابل النظام الاقتصادي القائم على الإقطاعية (Feudal Economy). إن السوق الحر يتطلب نظاما سياسيا حرا يتواءم مع إطاره ويتفاعل مع تطوره، فالرأسمالية والملكية الفردية للثروة والتنافس الحر بين الأفراد في السوق هي الخصائص التي تدفع لظهور الديموقراطية كنظام سياسي رديف للنظام الاقتصادي.
على الصعيد الآخر فإن الشيوعية - وإلى حد ما الاشتراكية - كنظام اقتصادي قامت على مبدأ إلغاء التنافس الحر في الأسواق، وذلك لتحقيق مبدأ العدالة الكاملة في توزيع الثروات وإلغاء الفوارق الاجتماعية بين أفراد المجتمع. هذا النظام تطلب من جهته تحكما كاملا من الدولة في الاقتصاد وعوامل إنتاجه. ومن الجدير ذكره أن جوزيف ستالين كان أول من أدخل مفهوم التخطيط المركزي للاقتصاد من قبل الدولة (planned economy) ، وكذلك فكرة الخطط الخمسية للتنمية (five year plans). إن الديكتاتورية السياسية التي اشتهر بها الاتحاد السوفيتي لم تكن في جوهرها سوى تعبير عن إرادة آليات السوق المغلق في إيجاد صيغة تنظيمية للدولة والمجتمع تتوافق مع النظام الاقتصادي الشيوعي (والاشتراكي لحد ما) وإلغاء الملكية الفردية للثروة.


بين هذين النمطين لجأت دول العالم الثالث لفكرة الاقتصاد المختلط (mixed economy) والذي يجمع بين اقتصاد السوق الحر وبين التخطيط المركزي والتحكم في الاقتصاد من قبل الدولة. وطبقا لهذا النظام قامت الحكومات بالتحكم في عوامل الإنتاج الرئيسية في السوق من خلال تملكها لقطاعات الاقتصاد الكبرى مع إتاحة حرية الملكية الفردية والتنافس في السوق في الوقت ذاته. وكان لهذا الأمر ثلاثة انعكاسات رئيسية:
أولا: تحول الدول إلى اللاعب الرئيسي في الاقتصاد، توجهه وتدفعه وتتحمل في المقابل عبء فشله، وهو ما دفع الدول التي تبنت هذا النموذج ndash; مثلا ndash; إلى اتباع آليات الدعم الحكومي للمواطن (subsidy system). هذا الأمر ألغى بالتبعية دور المواطن في الإنتاج وتحمله للمسؤولية الفردية كما في النظم الرأسمالية، وأغلق عليه من جهة أخرى منافع السوق الحر ونظامه رغم وجوده اسميا. أصبحت الدولة المسؤول الرئيس عن الفشل أمام المجتمع.
ثانيا: نشوء نظم سياسية هجينة بين الديكتاتورية والديموقراطية، نظرا لكون النظام الاقتصادي المختلط هجينا يتطلب وجود كلا الأمرين، فالتخطيط المركزي للاقتصاد من قبل الدول تطلب يدا قوية للحكومات، وقاد فشل هذا النموذج الاقتصادي بالتبعية لمزيد من التشدد والقبضة الأمنية للدول يغذيها بالطبع رغبة أصحاب السلطة في البقاء.
ثالثا: أدت آليات السوق الحر الموجودة في ظل تحكم الدول المركزي في الاقتصاد إلى نشوء الفساد الإداري والمالي وتنمية الثروات الخاصة من هذا الطريق، مما أدى لفشل عدالة توزيع الثروات وكذلك إخفاق آليات السوق الحر في جلب المنفعة للمجتمع كما ينبغي.


الموجة الثالثة للديموقراطية لم تكن سوى تعبير عن الرفض لهذا النموذج بشقيه الاقتصادي والسياسي، والعالم العربي هنا ليس استثناء، فالاقتصاد يقع في قلب معادلة الربيع العربي وإن اتخذ أشكالا متعددة من التعبير غير اقتصادية. إن مطالب إصلاح البيئة التشريعية أو التعليمية أو الإدارية للدول تصب جميعها في نهاية المطاف في خانة النموذج الاقتصادي، فالرأسمالية في حقيقتها كما أورد الاقتصادي الشهير هرناندو دي سوتو يقوم نجاحها على وجود بيئة قانونية وإدارية فعالة تضمن عدالة المنافسة وتضمن حرية السوق وتضمن الحقوق والملكية الفردية، بما يدفع التنمية الاقتصادية وريادة الأعمال. لقد قام هرناندو دي سوتو وعلى مدى العامين الماضيين بأبحاث ميدانية معمقة لمحاولة تقديم قراءة اقتصادية تشرح الأسباب الحقيقية للربيع العربي، فلقد كان جل ما خسره محمد البوعزيزي من مصادرة عربة الخضار التي يملكها في عام 2011 هو 225 دولارا، وهو مبلغ لا يفسر إقدام شخص على إحراق نفسه كما يشير دي سوتو. إن المعضلة هنا لم تكن خسارة البوعزيزي لكل ما يملك بقدر ما هي إحباطه من نظام اقتصادي لا يتيح له فرصة الحياة. يشير دي سوتو على سبيل المثال إلى أن افتتاح مخبز في مصر بشكل رسمي وتسجيله يتطلب 550 يوما ومراجعة 29 جهة حكومية والانصياع لحوالي 215 قانونا وتكلفة تصل إلى 25 ضعف ما يكسبه شخص في 3 سنوات. وهذا ما يجعل السوق السوداء بكل فسادها وآلياتها هي القاعدة في العالم العربي بينما العمل القانوني هو الاستثناء. هذا الأمر يعطي نظرة تفسيرية لأحد الأسباب الرئيسية للربيع العربي، وحتميتها التاريخية في ظل فشل الدول العربية على الصعيد الاقتصادي.
إن الرأسمالية واقتصاد السوق الحر يتطلبان في نهاية المطاف أن يتطور النظام السياسي لكي يتواءم معهما. في المقابل فإن التجربة التاريخية أثبتت أن محاولة النظم السياسية الحجر على آليات السوق الحر - كما في الاقتصاد المختلط - تقود لسلسلة من الفشل الاقتصادي ولاحقا لانفجار المجتمعات. وحتى يتوصل العالم لنموذج اقتصادي مختلف فإنه لا مناص من القبول بالرأسمالية كالنظام الاقتصادي الوحيد الذي أثبت جدواه. وهو ما يتطلب بالتبعية معالجة سياسية بناءة.