شوقى جلال

قضيتنا المحورية هي أزمة الفكر الاجتماعي العربي التي هي في جوهرها أزمة فعل التحول الاجتماعي الحضاريrlm;,rlm; أو أزمة انتاج المجتمع لوجوده علي مستوي منافس لحضارة العصرrlm;.rlm;

والقضية قديمة تواترت علي ألسنة المصلحين: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ولكنني استكمالا وتوضيحا للرؤية أطرح مع السؤال أسئلة أخري: كيف تقدم غيرنا وقد كانوا في السابق أسوأ حالا؟ وكيف نتقدم نحن؟ ما هي شروط وآلية ومعايير التقدم؟ ثم كيف تكون ثقافتنا الاجتماعية حافزة لفعل التقدم والتحدي والمنافسة, حافزة لفعل الابداع والتجديد والتغيير؟ وما هو الخطأ في أسلوب تناولنا للقضية بحيث مضت قرون وتعاقبت أجيال وتفاقمت الحال, وأزمن الفشل, وضاعت من أقدامنا الطريق وبقي السؤال مجرد سؤال ولا فعل؟
أحاول الخروج عن السياق التقليدي في النظر إلي عصر ذهبي مضي, والزعم أن الفشل مرجعه أننا تنكبنا طريق السلف. والحضارات أطوار تراكمية صاعدة, وليست امتدادا متجانسا. والحضارة فعل ذاتي بالأصالة وليس بالنيابة.. وإن ما صنعه السلف لا يغني عن جهد الخلف; وليس السلف بانجازاتهم قدوة للمحاكاة بل قدوة لمنهج وثقافة الفعل وصناعة الوجود والتحدي.
وأحاول الخروج أيضا عن مقولة التحديث محاكاة للغرب لأن الحداثة معيار متجدد, والتحديث متعدد الآليات, وفعل ذاتي أصيل. والتحديث ثقافة حافزة للفعل والمنافسة نتعلم أسسه ومنهجه, ونستوعب خبراته علي صعيد عالمي ولا نستورده.. إنه صناعة لا حيازة, وفعل ابتكاري متجدد وليس مظهرا للمحاكاة.. والتحديث ثقافة تغيير وتكيف.
القضية هي التطوير.. تطوير الإنسان/ المجتمع.. تحول حضاري ومشاركة, أي فكر وفعل ابداعيين وليس تنمية. التحول الحضاري امتداد وتعزيز رأسي صاعد. وتغير كيفي يفضي إلي نشوء أنماط وأشكال جديدة, ويحقق انجازات وفق معايير المنافسة لحضارة العصر, كما يفضي إلي نشوء فكر ورؤية جديدين. والحضارة عندي عملية تاريخية قوامها إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري القيمي في تكامل, استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان/ المجتمع.
وهذا تعريف يتسم بالدينامية إذ يدمج الإنسان كأحد مكونات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه, ويتسق مع التعددية والتطور في الزمان والتنوع في المكان. تطوير المجتمع موقف من الحياة, ونمط سلوكي في الاستجابة لتحديات الوجود, وفهم للذات ولدورها واستحقاقاتها الوجودية والمعرفية بشأن الواقع الراهن والمستقبل المنشود الذي يصنعه المجتمع بارادته. وقد تكون التحديات رؤي وتخيلات من ثقافة موروثة حال انفصال الكلمة/ الفكر عن الواقع, وقد تكون التحديات واقعا ماديا نشطا محليا وعالميا مثل واقع العلم والتكنولوجيا.
والتطوير الاجتماعي, أو النهضة, نمط من أنماط التكيف الذي هو آلية بقاء وتعزيز الوجود والهوية في إطار المنافسة وصراع الوجود. ويمثل التكيف هنا حلقة في سلسلة تاريخية ممتدة تجسد قدرة بشرية تتميز بدينامية الاستجابة إزاء التحديات الداخلية والخارجية مما يكفل للمجتمع مرونة ومناعة علي الصعيدين الفكري والمادي, وقدرة علي البقاء والعطاء.
والتطوير الاجتماعي, كذلك, حركة هادفة وصاعدة للمجتمع من مستوي أدني إلي مستوي أعلي وأغني للطاقة والفعالية والكيف أو الحالة الانتاجية والتعقد والفهم والإبداع وفرص الاختيار والسيطرة والاستمتاع والانجاز في إطار معايير حضارة العصر.
ويقتضي تطوير المجتمع في ضوء حضارة عصر الصناعة والمعلوماتية إطلاق وتوجيه مسارات طاقات جميع أبناء المجتمع عبر مزيد من التنظيم الاجتماعي المعقد بهدف تعزيز الطاقة الانتاجية, وتعظيم المخرجات. ولهذا تمثل عملية التطوير فكرا نقديا للموروث ومستقبلي التوجه والمسار. وتمثل أيضا ابداعا اجتماعيا ذاتي المنطلق وبذا لا تكون عملية التطوير محصلة عوامل خارجية محضة, وإن أفادت بها, وإنما تحمل خصوصيات ثقافية وتاريخ المجتمع, وتحمل طبيعة الوعي الاجتماعي بالتحديات, وقبوله لهذه التحديات والصراع ضدها.
ويمثل العلم روح حضارة العصر انجازا فكريا نظريا, وانجازا ماديا ثقافيا في تلاحم وتطور مطرد. وأصبح العلم والتكنولوجيا هما قصبا السبق وفرس الرهان, وأساس التغيير والانجاز والتمايز أو التفاضل بين المجتمعات وعماد البقاء والصراع. ولعل من أهم أدوات التطوير الاجتماعي مع العلم والتكنولوجيا رأس المال الموظف اجتماعيا نحو الهدف, والتنظيم المؤسسي لأنشطة المجتمع وما تتمتع به من حريات, والبنية الأساسية والسياسية والاجتماعية والتعليم والمهارات أو الخبرات الفنية ووقت الفراغ... إلخ.
وجميع هذه الادوات غايتها بناء الإنسان أي تعظيم رأس المال البشري للمجتمع; كما وأنها ثمرة المجتمع. أعني أنها تشكل عملية مجتمعية مطردة في سياق صراع الوجود. وحتي لا نقع في خطيئة الشكليات والمظهريات يتعين النظر إلي ما وراء أدوات التطوير, أي إلي الإنسان/ المجتمع المبدع لهذه الأدوات وخالق التكنولوجيا والفكر, مع التماس الشروط اللازمة للنجاح.. النجاح في بناء إنسان جديد.
وأعود إلي سؤالي الأساسي: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ المشكلة المأساة أننا عند محاولة الإجابة ظللنا أسري التأمل النظري المجرد للمجتمع والواقع العالمي, وبقي السؤال سؤالا دون إجابة. لم ننظر إلي واقع حال المجتمع, والمجتمعات, في وجودها التاريخي, ولم نقارن بين الوجود الحركي الدينامي المتغير وبين البقاء الساكن الراكد ونعرف أو نفكر في أسباب هذا وذاك, ونصوغ فكرا علميا عن تطور المجتمعات, وعن دور الإنسان العام صاحب الإرادة والمشاركة الفعالة وفق مقتضي حضارة العصر, ونحدد معني الفعالية... فعالية الإنسان/ المجتمع.... ولم نفكر في قانون صراع الوجود وأسبابه الطبعية, وأن المنافسة/ الصراع قانون الوجود.. وغاب عن الأذهان معني وضرورة التكيف كفعالية وانتاج اجتماعي, وإنما قنعنا بالنظر المجرد في إطار الموروث المفارق زمانا ومكانا.. وحين يقع المجتمع أسير النظر المجرد, مع تعطل الفعل الانتاجي الابداعي الاجتماعي فإنه عمليا يقع أسير الفكر التقليدي الموروث, ويكون الوجود الاجتماعي عنده مجرد امتداد سكوني نمطي للماضي.
هذا علي عكس تأمل الواقع في تغيره بفعل الإنسان نشأة وتكوينا وصيرورة, وتأمل الممارسة العملية, والعمل الاجتماعي في مواجهة التحديات. ذلك لأن هذا الواقع الحي المتغير بفعالية الذات هو أساس ومعين التفكير الابداعي.. تحديد الفكر وأدوات وأسلوب ممارسات العمل ازاء ظواهر الوجود.. ولهذا السبب ترانا دائما نبدأ فكريا من جديد.. تمضي العقود أو ربما القرون, ونعيد الأسئلة ذاتها, ونعيد تأملها من خلال اطار فكري تقليدي. يحدث هذا مرارا لا لشيء إلا لأننا لم نتغير, أعني لأننا لا نعمل. إذ العمل الاجتماعي هو القوة الدافعة للتغيير, وقوة لتركيز الانتباه والفهم واستخلاص الفكر الجديد أي الابداع.
وعشنا قرونا بغير مشروع وجودي, وقنعنا بالبقاء. والوجود غير البقاء.. البقاء اطراد عشوائي, بينما الوجود مشروع راهن ومستقبلي, وفعل ارادي عقلاني, والفعل المجتمعي, أي العمل الاجتماعي هو أساس توليد الفكر المجتمعي المتجدد.. فكر جديد لصناعة مشروع الوجود.. ولكن الشعور أو الظن بأننا خير الأمم بمعايير الحياة الدنيا وتجلياتها وأنشطتها الحضارية يعني نهاية الفعل المجتمعي وتعطل قوة التغيير الهادف, ومن ثم نهاية لعملية توليد فكر جديد.
ولكن النشاط الانتاجي للمجتمع ارتقاء مطرد, أنه عمل اجتماعي هادف متوحد بالفكر, حيث الفعل والفكر وجهان متلازمان للعمل الاجتماعي وبينهما تغذية متبادلة تحفز نحو مزيد من التطور. وإذا تعطل الفعل تعطل وانحسر الفكر, ويظل النشاط الفكري حدثا فارغا لأنه غير ذي محتوي, أي بغير رصيد واقعي, وبغير معني علمي. صفوة القول إذن: قضيتنا هي الحاجة إلي فعل حضاري جديد, يولد فكرا عصريا, يضع أقدامنا علي طريق النهضة العربية.