حسن حنفي

لقد حان الوقت لتحديد خصائص فكرنا القومي، ما له وما عليه. وإنه ليصعب علينا أن نوجد دون أن نعي تصورنا للعالم، وأن يكون لدينا العمق الشعوري الكافي لرؤيته والحكم عليه، وقياسه على الواقع ورؤية توجيهه للسلوك. فالفكر القومي ليس مجموعة من المبادئ يمكن عدها، ولكنه سلوك يومي يتحدد في أنماط فكرية ونماذج ثقافية، وخبرات معيشة يمر بها الجميع، ووصلت إلي درجة من العمومية والوضوح حتى أصبحت نمطاً للحياة الثقافية وأسلوباً في الحياة العامة لا يخرج عنه أحد حتى لو أراد بما لديه من بقايا فطرة، وشجاعة أدبية، ورغبة في المخاطر، وحب في النزال وبراءة طفولية لا تخبو مهما كانت الظروف. وهذا لأننا نتحدث عن الغالب وليس النادر، ونشير إلى العام وليس الخاص، ونتطرق إلى المشهور وليس إلى الشاذ، ونتوجه إلى الشائع وليس إلى الاستثناء، ونصف الخط الدائم المتصل وليس النتوء البارز المتقطع.
فهذه المخاطر العامة لا تعني أنها الخط الفكري لكل فرد من أفراد الأمة، فقد يخرج عن هذا الخط أو ذاك فرد أو أفراد يكوّنون حركة التاريخ، ولكن السمات القومية تتحدد بالسمات الغالبة وليس بالسمات الفريدة، وهي ما زالت مستمرة تفعل فينا وتشكل فكرنا القومي، وتحدد سلوكنا اليومي، وتكوّن نظريتنا السياسية. فإذا كان تبرير السلطة القائمة هو الطابع السائد فهذا لا يعني عدم وجود فكر مناهض للسلطة ومعارض لها. وغلبة المنهج الاستنباطي النازل لا تعني بالضرورة غياب كل فكر تحليلي علمي صاعد. وغياب المؤسسات الفكرية المؤثرة في حياتنا القومية، وغياب البعد التاريخي في فكرنا القومي لا يمنعان من وعي البعض منا بالتاريخ ومحاولته استكشاف في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟

وقد يبدو من الصعب تحديد مخاطر في فكرنا القومي دون التعرف علي هذا الفكر ذاته وتحديد خصائصه. والحقيقة أن هذا أحد المخاطر الأولى وهو غياب معالم لفكرنا القومي يصعب تحديده من خلالها. وقد ينفيه البعض كلية لأن الفكر لا يكون قومياً، فالفكر لا جنس له ولا دين. وقد يثبته البعض الآخر على نحو لاشعوري، فتكون مهمتنا إذن تحليل النفس وإخراج ما تحت الشعور إلى الشعور. وقد يثبته فريق ثالث على نحو شعوري، ويحكم بوجوده، بل ويحدد سمات دائمة له تقترب أحياناً من الصفات الدائمة حتى نقترب في النهاية من الفكر العنصري الذي يحدد لكل فكر قومي صفات ثابتة عبر التاريخ لا تتغير بتغير الظروف، أو بتوالي الفترات التاريخية.

ولكن بصرف النظر عن حجج كل فريق، فإن فكرنا القومي هو ما يعبر عنه الكثير باسم الثقافة الوطنية، عندما تتحدد بصورة بارزة.

فالفكر القومي هو الذي يحدد معالم الثقافة الوطنية، والثقافة الوطنية هي تحقيق للفكر القومي في مجالات التربية خاصة تربية الجماهير، من خلال الكوادر السياسية أو أجهزة الإعلام أو مناهج التربية.

وفكرنا القومي هو ما يعبَّر عنه أحياناً أخرى باسم الشخصية الوطنية التي كثر عنها الحديث في هذه الأيام أو الشخصية القومية أو الشخصية فحسب. ولكن الشخصية هي طريق تحقيق الفكر بطريق محسوس قائم على حب الذات والرغبة في الحصول على وجود ملموس في مواجهة الضياع. الشخصية تحقيق مبدئي وسريع للفكر القومي، وإحساس مرحلي بالوجود في مواجهة العدم. ولكن سرعان ما ينحلّ هذا التجمد ويتحول الفكر القومي إلى وجود من خلال نشاط الجماهير وعمليات التغير الاجتماعي، فتحل الثورة محل الشخصية وتذوب الشخصية المتجمدة في الثورة. فالحديث عن الشخصية حديث متسرع يود الانتماء السريع، ويعوض الإحساس بالفقد حتى لو ضحى بالحركة والنشاط. ويغيب عن الأذهان، من أجل المحافظة على الذات، كل ما قد تحتويه الشخصية من عنصرية وتشخيصية وأنانية وتوسع في المجال الحيوي وغياب مقياس للتوفيق بين الشخصيات القومية.

وفي كل الأحوال، فكرنا القومي شيء موجود، من الصعب أن يغيب في عصر الأيديولوجيات والمذاهب الفكرية حتى لو كنا ما زلنا نعاني من غياب أيديولوجية واضحة للعالم متسقة المضمون. ولكن يصعب التمييز بينه وبين التراث. فالتراث مخزون نفسي لدينا، وهو الذي شكل فكرنا القومي وطبّعه بطابعه لدرجة أنه يمكن القول إنني لا أفكر في تراثي، بل تراثي هو الذي يفكر لي وفيّ. فالتراث هو الذي مد فكرنا القومي بقوالبه الأساسية، وحدد علاقاته بالسلطة وبالواقع وبالمنهج وبالمؤسسات وبالتاريخ. فكرنا القومي ما هو إلا ناتج عن التراث، أو هو التراث في تفاعله مع واقع جديد. فالفكر القومي ما هو إلا تعبير خارجي عن شيء دفين هو الموروث، وهو السطح لعمق آخر أي التاريخ.

والتراث هنا لا يعني الدين وحده، على رغم أن الدين هو الطابع الغالب، ولكنه يضم الشعبي أيضاً، فنحن نفكر من خلال الغزالي والأشعري كما نسلك من خلال أبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن، وننتشي من سماع قصص شهرزاد وعلي بابا وجحا. نستشهد بالنصوص الدينية كما نلجأ إلى سلطة الأمثال العامية والأقوال المأثورة.

وكان يمكن بطبيعة الحال تحليل خصائص فكرنا القومي للتعرف على مكامن الخطر فيه بتحليل الأعمال الفكرية والأدبية والاستشهاد بالنصوص ورصد الوقائع وإعطاء البيانات والإحصائيات وتأييد هذه المخاطر بالأرقام ولكن في الحقيقة لا يمكن الانتقال من الواقع إلى الماهيات أو من الأشياء إلى المعاني. وهذه الاستحالة هي أحد حدود النزعة التاريخية. ولكن يمكن تحديد معالم فكرنا القومي بتحليل تجاربنا الفكرية ومحاولة التعرف على ماهيات مستقلة لها يدركها كل من يشارك فيها ومن ثم تتحول إلى حقائق موضوعية. فالموضوعية هنا لا تعني خروج الماهيات من الوقائع المادية بل عموم الماهيات وتطابقها في التجارب المشتركة. وبالتالي، فالمنهج الفينومينولوجي الظاهراتي هو أقرب المناهج لتحقيق هذا الغرض. فهو الذي يساعد على تحليل التجارب الشعورية التي يعيشها مفكر عربي في عصرنا الراهن محاولاً إدراك ماهياتها المستقلة. ويكون مقياس صدقها هو مدى اشتراك المفكرين الآخرين في هذه التجارب المعيشة وفي الماهيات المدركة.

ينشأ الفكر القومي نتيجة لظروف تاريخية وحضارية واجتماعية ثم يؤثر فيها بدوره ويوجهها. وعلاقة الفكر بالواقع إذن علاقة متبادلة، ينشأ الفكر من الواقع ثم يوجه الفكر الواقع ويحدد مساره. ويتم ذلك كله في الشعور من خلال التجارب الحية التي يعيشها الفرد وتحياها الجماعة، وقد خلقت الثورات العربية المعاصرة هذه الظروف على مدى ربع قرن وطبعت فكرنا القومي بطابع معين ما زال حتى الآن يؤثر في مسارها إلى الأمام أو إلى الخلف.

إن التعرف على فكرنا القومي وعلى مكامن الخطر فيه هو أحد جوانب التعرف على الذات قبل أي شروع في عمل أو إعطاء أنفسنا مهمة تاريخية. والقدرة على الحكم على الذات هي في الوقت نفسه تعميق لها إذ إنها تصبح ذاتاً وموضوعاً في آن واحد. والإشارة إلى هذه المخاطر، والتنبيه عليها ليست إدانة لأنفسنا بقدر ما هي كشف عن أبنيتنا الثقافية وتحليل نفسي لوجداننا الحضاري، وتشريح لأذهاننا، وعملية ممارسة للنقد الذاتي الذي لا تقوم نهضة بدونه. كما أنها ليست محاكمة فكرية لتجربتنا الثورية، فتلك محاكمة الجيل الحاضر والأجيال القادمة لا محاكمة فرد لفرد آخر، أو محاكمة فرد لجيل بأكمله.