محمد خليفة

بين الحلم والواقع مسافة كبيرة وهوة عظيمة تسقط فيها الأفكار النبيلة وترتطم بأهوال العدم . والكثير من البشر ينخدعون بأحلامهم ويظنونها حقيقة، فإذا ما استيقظوا وجدوا أن كل ما حلموا به ليس إلا وهماً . لقد حدث لشعوب الثورات العربية هذا الأمر، فهذه الشعوب التي كانت تأمل، من وراء عمليات التغيير التي قامت بها، بمستقبل زاهر وبعيش رغيد، أصبحت تكابد لتحيا فقط وأصبحت تدفع عن نفسها شر التطرف الذي اقتحم مدنها وأحياءها وأضحى يقض مضاجعها ليل نهار .
إنه البؤس والتحسر على ماضٍ لا يعود وعلى مستقبل غامض تتقاذفه الرياح والعواصف العاتية . في تونس الخضراء، حيث كان يحلم الشعب العربي هناك بديمقراطية حقيقية توفر له وسائل الحياة المختلفة كما تفعل الدول الديمقراطية في غرب أوروبا . لكن حلمه تحول إلى كابوس، فقد جثم التطرف على صدره، وجاءت حركة النهضة الإخوانية بمشروعها الرامي إلى أسلمة المجتمع، ولأن الفكرة براقة، فقد انجذب تيار من الشعب التونسي إلى هذه الحركة التي استطاعت أن تؤلف حكومة بالتوافق مع أحزاب صغيرة . وسرعان ما انكشف زيف شعارات تلك الحركة، فقد ازداد الواقع المعاشي تراجعاً وانسدت آفاق الحياة أمام الشعب التونسي، ما دعا أحزاب المعارضة اليسارية والعلمانية إلى المطالبة بالإصلاح عبر تشكيل حكومة جديدة تعكس الطيف السياسي التونسي وتعمل على تحقيق تنمية حقيقية في تونس، لكن المستفيدين من الأوضاع الجديدة قابلوا دعوات المعارضة بالعنف وهكذا تم اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في 6 فبراير/شباط ،2013 ومن ثم تبعه اغتيال المعارض القومي محمد البراهمي في 25 يوليو/تموز ،2013 واتضح أن الهدف هو إسكات الصوت المعارض لحكومة النهضة، وقد اتهم الطيب العقيلي عضو لجنة الدفاع بقضية المعارضين السياسيين بتونس حركة النهضة بالضلوع في اغتيال شكري بلعيد
وقد دفعت هذه الحوادث المؤسفة التيارات اليسارية والعلمانية إلى المزيد من الاحتجاجات في وجه الحكومة وطالبت بحل المجلس التأسيسي أو quot;البرلمانquot; وتشكيل حكومة غير متحزبة ومراجعة مئات التعيينات الحزبية، وانحاز الاتحاد التونسي للشغل إلى جانب المعارضة، وهدد بالإضراب العام، ما دفع الحكومة إلى قبول الحوار مع المعارضة بهدف تسوية الأزمة، لكن الحوار الذي انعقد مؤخراً فشل بسبب التجاذب بين الحكومة والمعارضة حول شخص رئيس الحكومة، بينما كان يفترض أن ينتهي بعد أسبوعين .
وفيما رأى المتحدث الرسمي باسم الجبهة الشعبية المعارضة، زعيم اليسار التونسي حمة الهمامي، أن حركة النهضة والترويكا الحاكمة غير مستعدتين للوفاق ولا للحوار، اقترحت الجبهة الشعبية الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي لرئاسة الحكومة، لكن اقتراح أكبر نقابة تونسية قوبل بالرفض، في الوقت الذي أصدرت فيه رئاسة الجمهورية بياناً في 8-11-2013 أكدت فيه حيادها تجاه كل المرشحين في إطار احترام القانون المنظم للسلط العامة، وفي إطار السعي للوصول إلى توافق كل الفرقاء على سنّ قانون يتيح للبلاد الخروج من الأزمة الخانقة التي سقطت فيها .
يبدو أن تعنت حركة النهضة سيقود تونس إلى الفراغ السياسي، وهذا الفراغ سوف يتعمق أكثر مع إصرار كل فريق على حقه في أن يكون رأيه مطاعاً .
فحركة النهضة لن تتخلى عن المكتسبات السلطوية التي حصلت عليها في غفلة من الشعب التونسي، وهي ستقاوم كل الضغوط وربما تكون مستعدة للدخول في حرب أهلية، وهناك أفواج ضخمة من الإرهابيين التي باتت تصول وتجول في تونس وهي على أهبة الاستعداد لتفجير الوضع وإشاعة الفوضى . وأيضاً، فإن التيارات الليبرالية والقومية والعلمانية لن تسمح لهذه الحركة بقيادة البلاد نحو الأسلمة الشاملة، وما يعنيه ذلك من مسح أكثر من 50 سنة من تاريخ تونس السياسي المعاصر والعودة بهذا البلد إلى العصور الوسطى . وهكذا فإن الصراع السياسي المفتوح في تونس قد يجعل من هذا البلد العربي صومالاً أو أفغانستان أخرى .