أحمد عبد المعطي حجازي


أواصل حديثي عن الدستورrlm;.rlm; وأخصص هذه المقالة للنظر في لغة الدستور خاصةrlm;,rlm; لأن الدستور ليس مجرد أفكار ومباديءrlm;

. ولكنه أيضا لغة. بل هو لغة قبل كل شيء. لأن المباديء والقيم والأفكار والقوانين لا تظهر ولا تتحدد إلا باللغة.
فرق جوهري علي سبيل المثال بين أن نقول مباديء الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع وأن نقول أن هذه المباديء هي المصدر الرئيسي. أداة التعريف هذه, الألف واللام غيرت المعني تماما. فلم تعد مصادر التشريع كلها بما فيها الشريعة الإسلامية متاحة ممكنة, ولم يعد من حقنا أن نعمل بالحديث الشريف الحكمة ضالة المؤمن. إن وجدها لم يفلتها, وصار علينا أن نلتمس في الشريعة وحدها جوابا علي كل ما نواجهه من أسئلة العصر ومشكلاته في السياسة والاقتصاد, وفي الفكر والعمل.
وفي الماضي كان الناس يفصلون بين الفكر واللغة التي تجسده وتعبر عنه, ويظنون أن الألفاظ مجرد كسوة أو لباس ترتديه الأفكار التي تستطيع أن تعيش في الذهن متجردة عارية. فإذا قررت أن تخرج للناس أصبح عليها أن ترتدي ثيابها. لكن هذا كان وهما. فالأفكار لا وجود لها إلا في اللغة. حتي وهي خواطر لم نفصح عنها بعد. لأننا نفكر باللغة ولا نستطيع أن نتصور شيئا دون أن نسميه.
وإذا كنا نحتاج في كل أمورنا إلي لغة نجتهد في أن تكون صحيحة دقيقة راقية فحاجتنا في الدستور لهذه اللغة شديدة ملحة. لأننا لا نستطيع في الدستور أن نستخدم عبارة فجة غامضة أو نضع قاعدة يفهمها كل منا بطريقته الخاصة, وإنما يجب أن تكون كل كلمة في الدستور محسوبة واضحة محددة.
في هذا الضوء ننظر في الدستور ونبدأ بالديباجة التي كتبها الشاعر سيد حجاب فلا نملك إلا الاعتراف بما بذله من جهد في استحضار تاريخ مصر والتذكير بالحقائق والثوابت التي وحدت المصريين وتأسست عليها دولتهم وأعطتهم دورهم الرائد في حضارة البشر. فمصر القديمة هي مطلع فجر الضمير ومهد عقيدة التوحيد. ومصر الحديثة نضال دائم وثورات متوالية وتضحيات لا تتوقف دفاعا عن حرية الوطن واستقلاله, وعن الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة, وعن الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
وقد حرص سيد حجاب علي أن يذكرنا بما كتبه هيرودوت, وبرستيد, والطهطاوي, وجمال حمدان وسواهم عن تاريخ مصر وعن حضارتها وشخصيتها. ووازن بين وجهات النظر في لجنة الخمسين التي لم تكن دائما متوافقة فاستقام في يده الميزان مرة ومال مرة أخري سواء في التصور أو في التعبير.
أنه يسهب في الحديث عن بعض الحقائق وبعض عصور التاريخ ويركز في الحديث عن بعضها الآخر. يتحدث عما قدمناه نحن للعالم ويشير بتحرج لما قدمه لنا الآخرون. وهو يخص عبد الناصر بعبارة الزعيم الخالد التي يضن بها علي أحمد عرابي ومصطفي كامل وسعد زغلول. وهو يسمي طلعت حرب لكنه لا يسمي محمد عبده ولا أحمد لطفي السيد ولا طه حسين.
فإذا انتقلنا للغة رأينا فيها ما يستدعي المراجعة والتصحيح.
حين تتحدث الديباجة عن الوجود الإنساني وعن المخاطر التي تهدد الحياة علي الأرض التي استخلفنا الله عليها نشعر بالقلق, لأن العبارة تصح أكثر حين نقول: الأرض التي استخلفنا الله فيها. فنحن نقرأ في سورة النور قوله تعالي وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض. وفي سورة الأعراف: قال عسي ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفنكم في الأرض.
وحين تقول الديباجة أننا قادرون أن نستلهم الماضي وقادرون أن ننهض بالوطن نشعر بالقلق ذاته, لأن العبارة تستقيم أكثر لو قالت قادرون علي أن نستلهم الماضي. ففي سورة الأنعام يقول تعالي قل إن الله قادر علي أن ينزل آية. وفي سورة يونس يقول وظن أهلها أنهم قادرون عليها.
ونحن نقرأ في الديباجة عن نصر أكتوبر أنه منح للرئيس أنور السادات مكانة خاصة. والأصح منح الرئيس دون حاجة لهذه اللازم الزائدة.
والديباجة تتحدث عن العروة الوثقي بين الشعب المصري وجيشه الوطني الذي حمل أمانة ومسئولية حماية الوطن والتي حققنا بفضلها الانتصار فنجده حديثا مركبا مرتبكا. لأنه يبعد المضاف عن المضاف إليه ويفصل بينهما وذلك في الجملة التي تقول حمل أمانة ومسئولية حماية الوطن., وكان يجب أن تقول حمل أمانة حماية الوطن ومسئوليتها. ثم لأنه ينهي الفقرة بالجملة التي يقول فيها والتي حققنا بفضلها الانتصار فلا نكاد نعرف علي من تقع هذه التي لأن ما سبقها لا يؤدي إليها إلا إذا كان الحديث عن العروة الوثقي التي يفصل بينها وبين الجملة الأخيرة ما قيل عن الجيش الوطني.
ونحن في الديباجة نجد زوائد لا داعي لها ونواقص كان يجب أن نستكمل. مثلا حين نقرأ هذه الجملة مصر هبة النيل للمصريين نجد أن كلمة للمصريين زائدة. لأننا حين نقول مصر تتحدث عن أرض وشعب عن مصر وعن المصريين معا.. لأن وجود المصريين لم يسبق وجود مصر, كما أن وجود مصر لم يسبق وجود المصريين.
وحين تتحدث الديباجة عن مصر فتقول مصر العربية نجد أن الصفة لا لزوم لها. فليست هناك مصر أخري انجليزية أو هندية لنميز مصرنا عنها. ومادامت مصر واحدة فهي التي نعرف أنها عربية دون حاجة لوصفها. فإذا أردنا أن نعين شخصيتها ونحددها فالعروبة لا تكفي, لأن العروبة قاسم مشترك بين كل الأقطار الناطقة بالعربية, وإنما تتحدد شخصية مصر بتاريخها كله. ويكفي أن نقول مصر لنعرف أنها البلد الذي يمتد تاريخه المكتوب إلي الألف الرابع قبل الميلاد وإنصهر في شخصيته هذا التاريخ الممتد بكل عصوره وكل مكوناته القديمة والحديثة.
وسوف أكتفي بما قدمت لأنتقل من الديباجة إلي الدستور ذاته بمواده التي لم تخل هي أيضا مما يمكن أن نتوقف عنده لنصوبه وإن كان أقل بكثير مما وجدناه في الديباجة لأن لغة الديباجة تخاطب العواطف وتغري بالإنفعال, علي حين تلتزم لغة المواد التحديد والحسم والاختصار. ومع ذلك فقد تكررت فيها بعض التجاوزات التي سبقت الاشارة إليها في الديباجة, ومنها الفصل بين المضاف والمضاف إليه, فضلا عن بعض الأخطاء النحوية التي نراها مثلا في المادة التي تتحدث عن وكلاء الوزارات فتقول وتشمل مناصب الإدارة العليا لكل وزارة وكيلا أولا والصواب وكيلا أول دون صرف, لأن هذه الكلمة أفعل تفضيل.
هذه الملحوظات لا تمنعني من أن أقول مرة أخري أن هذا الدستور خطوة متقدمة للأمام. وسوف أقول له: نعم!