محمد عارف

يبدو أن الدنيا تغيّرت عام 2013، ونحن لم نعرف ذلك بعد، وهذه آخر نكات العام الذي هلّ علينا بنكات يقول عنها معجم quot;المنجدquot;: quot;لأُنكِتَّنَ بك الأرض أي لأطرحنّك على رأسكquot;! وقد نَكَتَّ شاب أميركي اسمه quot;إدوارد سنودنquot; بواشنطن الأرضَ حين سرّب الملفات الخاصة بتنصت وكالة الأمن القومي الأميركية laquo;إن. إس. أيraquo; على مكالمات ومراسلات سكان العالم، بمن فيهم زعماء ورؤساء أقرب الدول الغربية الحليفة لواشنطن. والتسرب مستمر في التسرب حتى اللحظة، ولا تعرف واشنطن حجمه، ومتى سيتوقف تسرب ما تجمعه يومياً ويبلغ نحو خمسة مليارات وثيقة، تُعادل تقريباً عدد مستخدمي الموبايل في العالم، الذي تجاوز الأربعة مليارات، إضافة إلى نحو ثلاثة مليارات مستخدم الإنترنت.

ومع أرقام كهذه صعبة على التصور نتحدث بالنكات، لأن الحديث الجدي حول الموضوع لا يستسيغه العقل. ونكات التنصت تركز على المستشارة الألمانية quot;ميركلquot; وولعها بالتراسل على موبايل quot;نوكياquot; لسهولة استخدامه بدلاً من الهاتف الرسمي المُشَفَر البطيء quot;إنها تضيق بالبطءquot; حسب معلق ألماني! صورة ميركل وهي تحمل موبايل quot;نوكياquot; عملاق الحجم صارت رمز فضيحة التنصت، ولعلها السبب في اعتذار أوباما لها وحدها دون جميع زعماء الدول الآخرين، الذين تتجسس عليهم واشنطن، وبينهم رئيسة البرازيل، التي ألغت بسبب الفضيحة اجتماعها المقرر بأوباما في quot;البيت الأبيضquot;. والنكات الواقعية في العام المنتهي أفضل النكات، ومنها قول ميركل عفو الخاطر quot;أساساً كل شخص يسمع مني عادة الأشياء نفسهاquot;! واستدرَكَتْ: quot;لن يجدوا في مكالماتي الشخصية غير ما أردده دائماً في العلنquot;. ونكتة اعتذار نظيرتها مستشارة الأمن الأميركي quot;سوزان رايسquot; بأن أوباما لم يكن يعلم بذلك، ثم استدركتْ quot;ذلك لم يحدثquot;! وأظرف من كليهما قول أوباما إنه quot;لا يتنصت على المستشارة لأغراض تجارية، بل لحماية العالمquot;! وأشهر من نكَّتّ بهم الإنترنت بالأرض الجنرال بترايوس، مدير quot;سي. آي. أيهquot; السابق الذي اضطر للاستقالة إثر افتضاح اتصالاته الغرامية عبر الإنترنت، على الرغم من أنه كان يستخدم عنواناً مستعاراً!

quot;إدوارد سنودن شخصية العام دون منازعquot; هو عنوان مقال الكاتب الأميركي جون كسيندي تعليقاً على اختيار مجلة quot;تايمquot; البابا فرانسيس، رئيس الكنيسة الكاثوليكية quot;شخصية العامquot; ويليه في المرتبة الثانية سنودن. واعتبر محررو quot;تايمquot; نفسها سنودن الأجدر بها، quot;لأنه أكثر من أثرَّ على الأخبار. ويؤكد ذلك صدور حكم محكمة فيدرالية أميركية هذا الأسبوع بمخالفة التنصت على مكالمات المواطنين للدستور، والتصويت له تقوم به سيارة نقل ركاب ضخمة تدور في شوارع واشنطن مخطوط عليها عبارة quot;نحن الشعب نعارض دولة الاستخباراتquot;، ونقول: شكراً إدوارد سنودنquot;. ومن غيره كشف بالأرقام والوقائع انتهاك الحياة الشخصية للمليارات من سكان العالم وزعمائهم؟.. الكاتبة البريطانية quot;جانيت ونترسونquot; صوّرت في حديث مع quot;الجارديانquot; طبيعة الانتهاك quot;هواتفنا الجوالة أصبحت أدوات رصد، وشبكة الاتصالات الاجتماعية تجمع المعطيات عنا، ولا يمكننا التبضع، أو الإنفاق، أو تصفح الإنترنت، أو التراسل الإلكتروني من دون رقابةquot;، وقارنت وضعها quot;بسجين تحت الرقابة يحمل يافطة إلكترونية أينما ذهبquot;. وذكرت quot;الجارديانquot; أن الفضيحة أدت إلى إصدار بيان وقعه خمسة من حملة جوائز quot;نوبلquot; ومئات الكتاب المرموقين يدينون التنصت السري، ويدعون لوضع quot;لائحة حقوق الإنسان الرقميةquot;.

وكما في حقوق الإنسان، فإن quot;لائحة حقوق الإنسانquot; أقل تأثيراً على حقوق الإنسان من الحق العام، وحق الدول، وحق الشعوب. نتعرف على ذلك، ليس في أرقام خسارة وربح العرب والمسلمين، الذين يخسرون دون حساب (من يحسب كلفة خسارة فلسطين)، بل الخسارات المتبادلة للشركات والدول الغربية بسبب التجسس الإلكتروني. quot;الهيجان التجسسي؛ الجميع يفعلونهquot; عنوان تقرير quot;نيويورك تايمزquot;، وذكرت فيه أن فرنسا كانت الأكثر موهبة بين القوى السارقة للأسرار الصناعية والممتلكات حتى أزاحتها جانباً الصين، التي شقت هجماتها السايبرية اليومية طريقها داخل وزارة الدفاع الأميركية، وسرقت مخطط quot;إف-35quot; أغلى المقاتلات الجوية في التاريخ. تبلغ كلفة تصميم quot;إف-35quot; 400 مليار دولار، وكلفة إدامة أسطول الولايات المتحدة منها تريليون دولار سنوياً. ولا يُعرفُ ما إذا كان الروس قد سبقوا الصينيين في سرقة المخطط، لأن quot;الروس يستغرقون وقتاً طويلاً في التسلل إلى الأهداف والمعلومات، وأكثر صبراً من الصينيين، لذلك لا يُمسك بهم غالباًquot; حسب quot;نيويورك تايمزquot;.

وأكثر ما يخشاه quot;سنودنquot; ليس أن تُسّلمه موسكو التي لجأ إليها إلى واشنطن، بل quot;ألا يغيّر الكشف عن هذه المعلومات أيّ شيء. سيتابع الناس كل هذه الإفشاءات، ويعرفون المدى الذي تذهب إليه الحكومات لاحتكار السلطة، وإحكام السيطرة على المجتمع الأميركي والمجتمع الدولي، لكن الناس لن يكونوا راغبين بالمغامرة بالوقوف، والكفاح لتغيير الأمور وإجبار ممثليهم لاتخاذ مواقف فعلية في مصلحتهمquot;. قال ذلك quot;سنودنquot; في حديث صحفي مع quot;جلين جرينوالدquot;، وهو أحد أعضاء فريق صغير من صحفيين شباب أودعهم quot;سنودنquot; المعلومات التي سربوها إلى الصحافة العالمية، وهربوا خارج البلاد. وأكثر ما يقلق الشباب، حسب quot;جرينوالدquot;، خيبة الأمل بالإنترنت الذي توقعناه أن يكون أداة فعالة للتحرير والدمقرطة، لكن الإنترنت قد يصبح أكثر الأدوات في التاريخ جبروتاً وقبحاً في السيطرة على البشر، واضهاد البشريةquot;.

هل هذا هو السبب في عدم كشف سنودن عن جميع المعلومات التي بحوزته؟.. تقرير لجنة quot;البيت الأبيضquot; الخاص بموضوع التسرب كشف عن الجهل بحجم التسرب، واقترح quot;ريد لدجيتquot; رئيس فريق الوكالة المسؤول عن التحقيق عقد صفقة مع quot;سنودنquot; تتضمن العفو عنه لقاء توقفه عن نشر الملفات السرية، وذكر أن quot;المسألة تستحق التفاوض حولهاquot;. والصفقة الوحيدة، التي قد تستحق التفاوض بين واشنطن وحلفائها، في تقديري، هي نكتة اضطرارها إلى إبلاغهم بحجم تجسسها عليهم، لو كانت تعرف فحسب ما بحوزة quot;سنودنquot;، فالتسريب كشف أن التجسس الأميركي لا يستثني حتى دول quot;الأنجلوسكسونquot; التي ترتبط منذ عام 1945 باتفاقية تمنع التجسس فيما بينها؛ وهي الولايات المتحدة، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا. وتهدد الفضيحة مستقبل العلاقة بين واشنطن وبرلين التي لن تتوقف عند تقليصها في مجالات الأمن quot;السايبريquot;، بل قد تستعيد ألمانيا وفق quot;نيويورك تايمزquot; سيادتها قبل الحرب العالمية الثانية. ولتطمئن قلوب quot;سنودنquot; ورفاقه الشباب بأنهم أبطال أكبر عملية تسريب وثائق سرية في التاريخ، وهذا بشير تهاوي أكبر القوى التجسسية العظمى في العالم، والتهاوي مفتاح المساومات الروسية الأميركية حول سوريا وإيران، ولعبة الشطرنج الروسية الأوروبية حول أوكرانيا، وطريق الحرير الصيني الإسلامي، الذي خصصت له بكين تريليون دولار. والمثل الروسي يقول: quot;الإله يرى الحقيقة لكنه لا يسرع في الإعلان عنهاquot;.