سعيد توفيق

الفن والدين في الأصل مرتبطان ارتباطا وثيقاrlm;:rlm; فموضوع الفن هوrlm;'rlm; الجميلrlm;'rlm; الذي يتم إبداعه من خلال عمل أو فعل إنساني يقع علي الطبيعة أو المادةrlm;:rlm; كالحجارة واللون والصوتrlm;...rlm;إلخrlm;;rlm;

أما موضوع الدين فهو' المقدس' الذي يشمل كل ما له صلة بالإلهي, وهو يقال في مقابل المدنس. هذان الموضوعان ملتحمان في الوعي الإنساني منذ أن حاول التعبير عن نفسه من خلال أنشطة قصدية لا تتوجه بفعل الغريزة فحسب: فالإنسان البدائي قد وعي المقدس باعتباره قوة هائلة غامضة تتحكم في حياته ومصيره, ولذلك يشعر إزاءها بمشاعر متباينة ومتداخلة من الرهبة والروعة والإجلال. وهذا ما نشهده في الرسومات المنقوشة علي جدران الكهوف, وفي التمائم التي كان البدائي يصنعها والتي لا تزال تصنعها الشعوب والقبائل التي تحفظ تراثها البدائي; وهو أيضا ما نشهده في تعاليم حكماء الحضارات القديمة التي يمتزج فيها الشعر بالدين; وهو أيضا ما نشهده في أشعار الفيدانتاVedas التي تجسد العقيدة الهندوسية القديمة. كما أننا نشهد ذلك أيضا في فن المعمار عند القدماء وفي العصر الوسيط المسيحي والإسلامي: فالمعبد اليوناني ينتصب فوق التل علي خلفية من الضوء السماوي, ورواقه منفتح علي السماء بلا سقف, لكي يبقي علي اتصال بالعالم الإلهي. ومع ظهور المسيحية أصبحت الكاتدرائية هي أسلوب التعبير عن إحساس شعب ما بالعالم الإلهي, وهو أسلوب يختلف حتي داخل المعتقدات المسيحية المتنوعة التي تعبر عن نفسها في طرز معمارية مختلفة. ومما لا شك فيه أن الشعور بالإلهي والمقدس قد تجسد لأول مرة في الأهرامات والمعابد المصرية القديمة التي تستحضر الشعور بالمهابة والجلال والعلو, علي نحو ما صور ذلك المخرج العبقري شادي عبد السلام في فيلمه' المومياء'. كما أن المساجد قد عبرت بأشكال مختلفة عن وعي المسلمين بوحدانية الإله التي تتجسد في المئذنة التي تشبه الواحد كعدد وهيئة, والتي تتجسد أيضا في الإحساس باللانهائية الذي يتجلي في المنمنمات والأشكال الهندسية التي تتكرر إلي ما لا نهاية. وهذا ما تشهد به أيضا لوحات التصوير المسيحي في العصر الوسيط, التي تصور غالبا الروح المسيحية التي تعبر عن نفسها في حالة السكينة والطمأنينة كما تتجلي في وجوه وإيماءات العائلة المقدسة والقديسين. بل إن فعل الرقص كان مسرحا لتجلي المقدس, حيث تتماوه فيه الحدود بين الجسم والروح; فالجسم يحرك ذاته روحيا, والروح تحرك ذاتها جسميا( كما يبين لنا ان دي ليوVanderIeo في عمله الفذ عن' الجميل والمقدس'). وتجليات المقدس في فعل الرقص نجدها في الرقص السماوي, وفي رقصة الموت, وفي سائر طقوس الرقص التعبدي التي كانت تمارس داخل المعابد كفعل من أفعال التطهير النفسي. وأهم ما يميز طقوس الرقص هنا أنها تقوم علي فعل المشاركة الجماعية, وهي طقوس لم تكن مقصورة علي الإنسان البدائي, بل كانت تتجلي لدي القدماء من المصريين واليونان, واستمرت حتي العصر الوسيط. بل إنه يمكن القول بأن الحضارة الحديثة- وبوجه خاص في منطقة شرق أسيا- لا تزال تحمل آثار هذا الرقص الديني أو المقدس. وعلي نحو مشابه, فقد نشأت الدراما والموسيقي نشأة دينية أيضا, وارتبطتا بالرقص ارتباطا وثيقا في عالم القدماء. فلقد نشأت الدراما في حضن المعبد, في حضن طقوس عبادة الإله ديونسيوس التي كانت تعبر عن الألم الترايدي الذي يشارك في التعبير عنه المتعبدون من خلال الرقص والتمثيل علي توقيعات الموسيقي في نوع من الاحتفال الديني. فما الذي حدث إذن؟ ما الذي حدث ليفصم عري الصلة الحميمة بين الفن والدين؟
الواقع أن هذا الانفصام نشأ علي مراحل, واتخذ أساليب متنوعة ومتباينة, ولعل أول أساليب هذا الانفصال وأقلها حدة, هو ما يسميه ان دي ليو' علمنة الفن', وهو التوجه الذي نشأ في العصر الأوروبي الحديث كنتاج لعصر النهضة الأوروبية الذي كان مدفوعا بروح المعرفة واكتشاف العالم بشكل مستقل عن الدين. والواقع أن هذه النزعة يمكن تفهم مشروعيتها بالنسبة للعلم وإلي حد ما بالنسبة للفلسفة, لا بالنسبة للفن; لأن الفن بوجه خاص ينبع من نفس المصدر الذي ينبع منه الدين, وهو الشعور السابق علي أي تعقل. والحقيقة أن هذا التوجه نحو' علمنة الفن' هو ما يصفه جاداميرGadamer بأنه حالة من' اغتراب الوعي الجمالي'; فالوعي الجمالي الاغترابي هو الوعي الذي ينسي أصله, ويربط نفسه بمقولة' الشكل الجمالي', غافلا عن أن مفهوم' الجميل' نفسه ليس مفهوما مجردا ومستقلا بذاته: فإن كان الفن يعبر من خلال الجميل, فإنه كان يعبر عن شيء ما: عن عالم الناس الديني والأسطوري والاجتماعي. ومن هنا يمكن أن نتفهم مقولة هيجل عن' موت الفن' أو بمعني أدق عن أن' الفن شيء من الماضي', باعتبارها تعني ببساطة أن الفن لم يعد قادرا علي التعبير عن الحقيقة أو المطلق الذي يتمثل في الإلهي, ومن ثم في الديني والمقدس.
غير أن هذا الانفصال بين الفن والدين قد عبر عن نفسه أحيانا بأسلوب أكثر عنفا من خلال نزعة عدائية إزاء الفن تمثلت في أوروبا من خلال حركة تحطيم أيقونات الدينIconoclaism في القرنين السادس والسابع الميلاديين, وهي الحركة التي كانت تطالب في الأصل بتحريم إيقونات الدين, أي بتحريم التماثيل والصور التي تصور المسيح والحواريين والعائلة المقدسة, باعتبارها مناسبة للوثنية. وعلي الرغم من أن الغرب المسيحي قد تخلي تدريجيا عن هذه النزعة من خلال مقاومتها منذ نشأتها, فإن هذه النزعة العدائية قد انبثقت مجددا في عالمنا الإسلامي في أبشع صورها من خلال روح اغترابية لا تعكس فقط حالة من' اغتراب الوعي الجمالي', وإنما أيضا حالة من' اغتراب الوعي الديني'. تلك هي الحالة التي تمثلت في تحطيم حركة طالبان لتماثيل بوذا, وهي الحركة التي نجد أصولها الآن قد انبثقت مجددا في الحركات الإسلامية في عالمنا العربي, التي خرج علينا أنصارها من كهوف الماضي البعيد ليقولوا لنا إن الفن لعب ولهو, ومن ثم فهو رجس من عمل الشيطان: فالنحت تشخيص ووثنية, والباليه مجرد عري, أما الموسيقي فهي مزامير الشيطان!
وعل الرغم من أن الغرب قد وعي أزمته في الفن حينما أنصت إلي صيحة هيجل بأن' الفن أصبح شيئا من الماضي', وإلي دعوة جادامير وغيره إلي ضرورة تجاوز حالة' اغتراب الوعي الجمالي'... علي الرغم من ذلك, فإننا لا نزال نسمع في حياتنا الراهنة صيحات عدوانية محمومة تصدر عن جماعات المتأسلمين الجدد المغتربين, لا فقط عن الفن ومعناه, وإنما أيضا عن الدين وفحواه. وحتي فيما يتعلق بموقف هؤلاء المتأسلمين من الفن, فإننا لا يمكن أن نصف موقفهم بأنه مجرد' حالة اغترابية للوعي الجمالي'; لأن موقفهم ليس مجرد موقف ينصرف عن أصل الفن وحقيقته إلي غيره, بل هو موقف يعادي الفن ذاته بما هو فن! ومن أجل هذا نكتب هذا المقال, لعله يسهم في تغيير حالة تزييف الوعي التي نشهدها الآن; فكل تغيير في حياة الإنسان يجب أن يبدأ من الوعي.