محمد السماك

ما هي العلاقة بين عملية التسلح وعملية اتخاذ القرار السياسي؟ هل إيران تريد امتلاك القنبلة الذرية لاستعمالها، أم أنها تريدها للاستقواء بها في عملية اتخاذ القرارات السياسية المتعلقة بعلاقاتها بدول المنطقة والعالم؟ تجيب عن هذا السؤال الولايات المتحدة ذاتها من خلال مبادرتها إلى استخدام القنبلة النووية في نهاية الحرب العالمية الثانية ضد اليابان. ففي عام 1946 أعدت وزارة الدفاع الأميركية تقريراً سرياً بعنوان :quot;جهود اليابان لإنهاء الحربquot;. اعترف التقرير الذي لم يذع إلا في عام 1995 أنه من المؤكد أن اليابان كانت على استعداد للاستسلام قبل ديسمبر 1945، وربما قبل الأول من نوفمبر 1945 حتى ولو لم تُلقَ القنبلتان النوويتان عليها، وحتى لو لم تدخل روسيا الحرب، وحتى لو لم تهدد بالاجتياح العسكريquot;.

إلا أن الرئيس الأميركي هاري ترومان أصرّ على إلقاء القنبلتين على هيروشيما وناجازاكي، في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة قد تمكّنت من حلّ الرموز السرّية- الشيفرة - الخاصة باليابان أثناء المراحل الأخيرة للحرب، وفي 12 يوليو 1945 كشفت واحدة من تلك الرسائل السرية عن قرار الإمبراطور نفسه بالتدخل لإنهاء الحرب. كانت اليابان تعرف أن الرئيس السوفييتي الجنرال جوزف ستالين وعد بدخول الحرب ضدها بعد ثلاثة أشهر من استسلام ألمانيا في الثامن من مايو 1945. ولقد حصل ذلك بالفعل في الثامن من أغسطس من ذلك العام. وكان ذلك وحده كافياً لإنهاء الحرب، ولفرض شروط الاستسلام على اليابان أمام الدول الكبرى الثلاث بريطانيا والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خاصة بعد استسلام ألمانيا. غير أنه كانت للرئيس ترومان حسابات أخرى. لم يكن ترومان يحتاج إلى القنبلة النووية لإخضاع اليابان بقدر حاجته إليها لتخويف الاتحاد السوفييتي وإرهابه. جرت أول تجربة ناجحة للقنبلة في 16 يوليو 1945، وفي اليوم التالي، كان quot;ترومانquot; مجتمعاً في quot;بوتسدامquot; مع quot;ستالينquot; وquot;تشرشل quot;.


يروي اللورد quot;ألن برووكquot; رئيس أركان القوات البريطانية في مذكراته أن quot;تشرشلquot; فوجئ باللهجة الفوقية، وبالتصرّف الاستعدائي للرئيس الأميركي وهو يحاور ستالين. فقد استفز ترومان الرئيس السوفييتي دون مبرّر وتوجه إليه بطلبات مستحيلة، بل تعجيزية. ولم يفهم تشرشل هذا التحول في الأسلوب التفاوضي لترومان، إلا في اليوم التالي عندما عرف بنجاح التجربة النووية الأميركية.

وتكشف الوثائق الأميركية أن وزير الخارجية في ذلك الوقت quot;بيرنزquot; أبلغ الرئيس ترومان quot;بأن القنبلة النووية ستضع الولايات المتحدة في موقف تفاوضي قوي يمكّنها من إملاء شروطها لإنهاء الحربquot;. كذلك يروي العالِم النووي الأميركي quot;لي زيلاردquot; في مذكراته التي نشرها بعنوان :quot;التاريخ الشخصي للقنبلة النوويةquot;، أن الوزير quot;بيرنزquot; اجتمع به في البيت الأبيض، وأنه أثناء الاجتماع لم يثر quot;بيرنزquot; ما إذا كان استخدام القنبلة ضد المدن اليابانية ضرورياً لكسب الحرب، ولكنه كان يؤكد على أن quot;امتلاكنا للقنبلة وإظهار فعاليتها سوف يجعل الاتحاد السوفييتي أكثر طواعية في أوروباquot;. وهكذا كان.

وفي شهر مارس 1945 أمطر الأميركيون العاصمة اليابانية طوكيو بالقنابل، فقتل 85 ألف ياباني، حمل هذا القصف حكومة الإمبراطور quot;هيروهيتوquot; على قبول البحث في شروط الاستسلام. وفي هذه الأثناء، أُلقيت القنبلة النووية الأولى، ثم أُتبعت بالثانية بعد ثلاثة أيام، وفي اليوم السادس، كانت اليابان توقع على وثيقة الاستسلام. من هنا، لم يكن استخدام السلاح النووي ضرورياً لحمل اليابان على الاستسلام. ولكنه كان أداة لحملها على قبول استسلام مذل، مما عزّز من الموقف الأميركي التفاوضي مع الاتحاد السوفييتي السابق على اقتسام تركة عالم ما بعد الحرب. ولأن امتلاك السلاح المتفوق يشكل قاعدة وأساساً لاتخاذ قرارات فوقية، فإن الولايات المتحدة حرصت على حجب أسرار الصناعة النووية حتى عن حليفتها في الحرب، بريطانيا، بل إن الولايات المتحدة عمدت عام 1946 إلى إبعادndash; بل إلى طرد- العلماء البريطانيين الذين كانوا يعملون إلى جانب العلماء الأميركيين في المفاعل النووي في صحراء نيفادا.

ويؤكد المؤرخ البريطاني جراهام فارهيلو في كتابه الذي صدر الشهر الماضي بعنوان quot;قنبلة تشرشل: كيف تقدمت الولايات المتحدة على بريطانيا في سباق التسلح النوويquot; هذه الواقعة. ويقول إنه في صيف 1941، وقبل أن تنضمّ الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية، أقرّ تشرشل العمل على إنتاج سلاح جديد. وأبلغ القيادة العسكرية البريطانية بأن السلاح المتوفر لديها مهم وكاف، إلا أن السلاح الجديد سيكون أكثر تطوراً. لم يشأ تشرشل أن يكشف عن طبيعة هذا السلاح الجديد، إلا أنه كان منذ عشرينات القرن الماضي يتحدث عن إمكانية إنتاج سلاح نووي يقلب موازين القوى ويفرض القرار السياسي على كل من يتجرأ على رفضه!

وكان تشرشل واثقاً من قدرة العلماء البريطانيين على إنتاج هذا السلاح، حتى أنه رفض الاستجابة إلى دعوة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت للتعاون المشترك في هذا الميدان. غير أن هجرة علماء ألمان وأوروبيين إلى الولايات المتحدة رجّح كفة الميزان لصالح واشنطن. ورداً على غطرسة تشرشل، كان الاستغناء عن العلماء البريطانيين الذين حرموا حتى من ملفاتهم العلمية التي عملوا عليها طويلاً في الولايات المتحدة.

من هنا لو أن بريطانيا تمكنت من إنتاج القنبلة النووية ndash; قبل الولايات المتحدة- كما كانت مؤهلة لذلك، لما تحولت من امبراطورية لا تغيب عنها الشمس إلى دولة تكاد لا تشرق عليها الشمس! وربما كانت التبعية البريطانية للولايات المتحدة، تبعية أميركية لبريطانيا. لقد تمكنت بريطانيا من quot;اصطيادquot; عدد من علماء الذرة الأوروبيين، ولكن الغطرسة البريطانية الاستعلائية، دفعت هؤلاء العلماء إلى مواصلة الهجرة إلى الولايات المتحدة، فخسرت بريطانيا نخبة من علماء الذرة الألمان والأوروبيين وربحتهم الولايات المتحدة بانفتاحها على الهجرة.

صحيح أن بريطانيا تمكنت فيما بعد من إنتاج السلاح النووي، إلا أن ذلك جاء بعد تمكن الاتحاد السوفييتي من إنتاج هذا السلاح أيضاً بفضل العلماء اليساريين الأميركيين والألمان والأوروبيين الآخرين الذين نقلوا أسرار المعادلات العلمية النووية إلى موسكو.

لقد تحولت عملية إنتاج السلاح النووي في الولايات المتحدة وبريطانيا إلى عملية سياسية من الدرجة الأولى، فالسلاح وضعت له مسبقاً وظيفة سياسية إما من خلال مجرد امتلاكه أو من خلال استعماله فعلياًndash; كما فعلت أميركا- أو حتى من خلال حجب المعرفة العلمية على إنتاجه كما حاولت أن تفعل بريطانيا وأميركا مع الاتحاد السوفييتي.

ولو أن العالم النووي الدانماركي quot;نيلز بوهرquot; نجح في تسويق فكرته بوجوب تبادل المعلومات النووية بين واشنطن ولندن وموسكو ، لما عرف العالم الحرب الباردة التي استمرت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى التسعينات من القرن الماضي.

في ضوء هذه الخلفية السياسية للصراع على امتلاك السلاح النووي واستخدامه، يمكن قراءة النهج الإيراني. فلإيران تطلعات سياسية بدأتها بشعار quot;تصدير الثورة الإسلاميةquot; منذ إسقاط الشاه. وهي تطلعات تمتد من أفغانستان شرقاً حتى المتوسط غرباً. وإذا كانت قد فشلت في تصدير quot;الثورةquot; عقائدياً، فهل تستطيع أن تنجح في تصديرها بالقوة النووية؟!