عبدالله إسكندر

يُجمع الأطراف اللبنانيون على أمر واحد، وهو اتساع تآكل المؤسسات الدستورية واتجاهها إلى الانهيار. هذا الإجماع المؤسف لا يغيّب حقيقة أن الوصول إلى الفراغ الدستوري الكبير، باستحالة انتخاب رئيس جديد السنة المقبلة في ظل تعطل مؤسسة مجلس النواب ومؤسسة مجلس الوزراء، يهدد الكيان هذه المرة وليس فقط النظام السياسي، إذ إن الصراع الداخلي، مهما حاول الجميع أو بعضهم التخفيف من مظاهره، يطاول أسس التعايش بين أتباع المذاهب، في ظل انفجار الصراع المذهبي في المنطقة، خصوصاً في سورية. ومن غير المعروف حتى الآن مآل المقتلة السورية، وكيفية تجميع هذا الموزاييك المتناثر بعد هذه المذابح وأعمال التدمير المنهجي، مع ما تخلّفه من نوازع الثأر والاجتثاث.

وفي ظل اتساع هذا التآكل في المؤسسات اللبنانية، ومع اتساع الحجم الكارثي لارتدادات المقتلة السورية، سواء اجتماعياً عبر الزيادة الكبيرة لأعداد النازحين أو سياسياً عبر زيادة الانقسام في المواقف من النظام السوري، يبقى الحد الأدنى من التماسك في المؤسسة العسكرية التي لا يرى أي من أطراف الصراع الداخلي حتى الآن مصلحة في انهيارها. وذلك، ربما لأن الحفاظ على هذا التماسك يتيح للجميع التأقلم مع فترة الوقت الضائع، أو ربما لأن أياً من الأطراف الداخلية لم يصل إلى مرحلة ضمان ولائها بالكامل.

على أي حال، ما تزال المؤسسة العسكرية اللبنانية حاجة لطرفي الخصومة المحلية، قوى 14 آذار وعمودها الفقري تيار المستقبل وقوى 8 آذار المتحلقة حول laquo;حزب اللهraquo;. ولذلك لا تزال متماسكة وصامدة في وجه التآكل المتجول على المؤسسات الأخرى.

لكن كل طرف في الصراع الداخلي يعطي للمؤسسة العسكرية الصورة التي يريدها أن تكون عليها، وليس كما ينبغي أن تكون فوق كل نزاع سياسي داخلي وعابرة لمصالح زعامات الطوائف وحسابات المذاهب، فتكون هذه المؤسسة، بالنسبة إلى طرف ما، حاضنة للوحدة الوطنية ومنع الانهيار في البلد تارة، وطوراً تكون بالنسبة إلى الطرف نفسه منحازة وتستهدف قسماً من اللبنانيين.

بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان، إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وتضعضع النظام الأمني المشترك، بدا أن ثمة اتجاهاً جديداً يتبلور في لبنان على انقاض النظام السابق. وفجأة ظهر laquo;التكفيريونraquo; في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان تحت اسم laquo;فتح الإسلامraquo;، وراحوا يعتدون على الجيش وحواجزه في المنطقة، ويتصدون بالقوة لمحاولات الجيش القبض على المطلوبين في هذه الحوادث. ومع اندلاع المعارك الكبيرة مع فتح الإسلامraquo;، خرج laquo;حزب اللهraquo; ليحذر أن الجيش يتورط في معركة ضد الفلسطينيين، وأن دخوله إلى المخيم laquo;خط أحمرraquo;. والدافع إلى هذا الموقف من laquo;حزب اللهraquo; هو أن جميع هؤلاء laquo;التكفيريينraquo;، وبينهم سعوديون وتونسيون وليبيون وفلسطينيون وسوريون ولبنانيون، قدموا من سورية، وبعضهم من سجونها، وأنهم كانوا يشكلون جزءاً من الخلايا التي ترسل إلى العراق عبر سورية لتنفيذ أعمالها الإرهابية. هكذا كان laquo;الخط الأحمرraquo; بالنسبة إلى laquo;حزب اللهraquo; حينذاك، هو تصدي الجيش لهؤلاء laquo;التكفيريينraquo; العاملين مع الأجهزة السورية، والذين كانت وظيفتهم في لبنان إرباك الوضع الجديد ومنع تشكله.

واليوم يتواجه الجيش مع laquo;التكفيريينraquo; في مدينة صيدا الجنوبية خصوصاً، لتصبح المؤسسة العسكرية على لسان laquo;حزب اللهraquo; هذه المرة laquo;كل ما تبقى من الدولة فإذا انهارت سينهار لبنان كله وإذا فقدت صدقيتها على الدنيا السلامraquo;.

الأكيد أن المؤسسة العسكرية لم تشهد تغيراً استثنائياً منذ معارك نهر البارد حتى الآن، لكن وظيفة laquo;التكفيريينraquo; في لبنان هي التي تغيرت، بالاستناد إلى التطورات السورية وما أفرزته في لبنان من انقسام حول الحركة الاحتجاجية السورية. هذه هي الصورة التي يريدها laquo;حزب اللهraquo; للجيش في صيدا، وقبلها في مواجهة لبنانيين في منطقة عكار شمالاً وفي عرسال وعنجر وغيرهما في البقاع. وهي الصورة التي لا يمكن أن تمنع الانهيار الذي يجري التحذير منه، لا بل تسرِّعه.