عبدالله ناصر العتيبي

ظهر laquo;أبومحمد الجولانيraquo; زعيم laquo;جبهة النصرة في الشامraquo; على قناة laquo;الجزيرةraquo; قبل أيام بكتف يسرى ونصف رأس ويد يسرى، وشرق وغرب باستراتيجيات التحالفات القائمة والمفاهيم السياسية، واستطرد وأوجز، ودخل بحذر في المتشابهات، وخاض في التفاصيل بلغة مرتبكة، وخرج من اللقاء في النهاية كما دخل فيه: رجل يعطي ظهره للكاميرا، وكنية مستعارة، ومحددات تعريف متداخلة، وموقف مائع رجراج.

جاء به تيسير علوني، أو جاء هو بتيسير علوني، ليتلو على المشاهد وقائعه وأمانيه، من غير أن يكلف علوني نفسه بالمحاججة أو الحوار المضاد أو الظهور بمظهر المحاور المستقل الذي ينقل لضيفه أسئلة الضد والاختلاف. ظهر اللقاء في مجمله وكأنه جزء من صفقة laquo;علاقات عامةraquo; بين قناة laquo;الجزيرةraquo; وraquo;جبهة النصرةraquo;.

وذكرنا بلقاءات سابقة للقناة مع شخصيات متهمة بالإرهاب، ظهر فيها المحاورون laquo;الجزيريونraquo;، ومن بينهم علوني، وكأنهم تلاميذ في مدرسة دينية يستمعون إلى شيخهم الذي يصيب ولا يخطئ.

لكن السؤال يبقى: لماذا اختار laquo;أبومحمد الجولانيraquo; هذا الوقت للظهور التلفزيوني، وما هي الرسائل التي أراد إيصالها من خلال قناة laquo;الممانعةraquo; العربية؟

في تقديري أن laquo;جبهة النصرةraquo; أرادت، من خلال ظهور قائدها، إرسال عدد من الرسائل المزدوجة إلى المتعاطفين والداعمين لها من جانب، والمناوئين لها من جانب آخر.

أولى هذه الرسائل يتمثل في نفي الإشاعات التي انتشرت قبل أسابيع عن مقتل زعيم laquo;جبهة النصرةraquo;، أراد القائمون على التنظيم من خلال إظهار الرجل ذي الكتف الأيسر والكنية الجولانية، أن يثبتوا لخصومهم وحلفاءهم أن laquo;مجلس إدارة التنظيمraquo; ما زال قائماً برئاسة laquo;الجولانيraquo;، الأمر الذي سينهي التخمينات والتخرصات التي كانت تتحدث عن انفلات عقد التنظيم بمقتل زعيمه، وتفرق دم ولاء مقاتليه لبقية الأحزاب الدينية المتشددة الموجودة في المنطقة.

وثاني الرسائل هو إعلان تدشين laquo;الذراع السياسيةraquo; لـ laquo;جبهة النصرةraquo; للتعامل مع المتغيرات السياسية ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، تنظيم laquo;جبهة النصرةraquo; ظل طوال الأشهر الماضية تنظيماً مسلحاً يهدف فقط للإطاحة بالنظام البعثي الحاكم في دمشق، ولطالما تحدث رموزه عن عمره القصير المتمثل في المرحلة التي تسبق السقوط فقط. كان واضحاً منذ البدء بحسب منظريه، أن التنظيم نشأ لإسقاط النظام وسينحل بعد مجيء نظام بديل، على عكس laquo;داعشraquo; التي دخلت أرض المعركة وهي تهدف إلى إنشاء دولة متكاملة الأركان تحت مظلة خلافة إسلامية منتظرة.

كانت الأمور تسير بهذا الشكل حتى جاء علوني بـ laquo;الجولانيraquo;، أو جاء laquo;الجولانيraquo; بعلوني لا فرق. الواضح الآن أن التنظيم المسلح الذي أوجد بسبب معين، صار معقداً بدرجة كبيرة، بحيث صار عصياً عليه أن يزول بزوال السبب نفسه! laquo;الجولانيraquo; من خلال اللقاء طرح فكرة وجود التنظيم في عمليات صناعة المستقبل السوري التي ستعقب سقوط دمشق كما قال! لكنه كان كريماً وديموقراطياً ومتسامحاً بدرجة كبيرة، إذ إنه تواضع وأعلن قبوله laquo;المشاركةraquo; مع أهل الحل والعقد من داخل سورية وخارجها. ومع أن كلمة laquo;خارجهاraquo; هذه تحمل أكثر من بعد laquo;قاعديraquo;، إلا أن مبادرته الكريمة بقبول المشاركة تستحق الالتفات والدراسة!

أما ثالث الرسائل فكانت موجهة لأميركا. ومن خلال هذه الرسالة كان من الواضح أن laquo;الجولانيraquo; يتعمد الدوران في حديثه حول نقطة براءة التنظيم من التكفير laquo;وما يلحق ذلك من عمليات إرهابيةraquo;، ويؤكد الاستعداد للحوار في ما بعد مرحلة الأسد، وهو بهذه الرسالة laquo;الترغيبيةraquo; يدعو الولايات المتحدة إلى التنازل قليلاً ووضع تنظيم laquo;جبهة النصرةraquo; في الحسبان عند الحديث والتخطيط لمستقبل سورية. أميركا الآن تعمل من خلال أذرعها الإقليمية في المنطقة على مسح التنظيمات الإسلامية في سورية واختيار ما يتناسب منها مع العقيدة الدولية لإدخاله في صناعة المستقبل السوري. ويبدو أن القائمين على تنظيم laquo;جبهة النصرةraquo; وعوا هذا الأمر متأخراً فأرادوا laquo;تبييض ساحتهمraquo;، وخلق ذراعهم laquo;السياسيةraquo; التي من المنتظر أن تلبي البدلة الأوروبية قريباً!

الحوار في مجمله كان قليل الدسم ويدعو إلى الابتسام، لكن ما أضحكني هو ظهور بعض التقارير الصحافية السورية التي نسبت laquo;أبومحمد الجولانيraquo; الى السعودية وقررت أنه عميل في استخباراتها. ودليل هذه التقارير على ذلك أنه لم يتعرض للسعودية وحكامها بسوء، على رغم أن تيسير علوني كان يجره إلى ذلك جراً. ضحكت كثيراً وقلت في نفسي ما أكثر جهل هذا العميل الذي جعل مدخل كشفه تافهاً إلى هذه الدرجة!