عبدالعزيز السماري

فجَّر شيخ سلفي مفاجأة أخرى عندما أفتى بجواز أن يقتني الرجل المسلم خمسين من السوريات ملك يمين؛ ليصبحن إماء تحت سلطته؛ وذلك ليحميهن من الاستغلال الجنسي! ثم تراجع عن فتواه ليس اعتقاداً بخطأ ما أفتى به، ولكن درءاً للفتنة حسب قوله، وكأنه بذلك يثبت مرة أخرى أن ثمة تعارضاً بين المعقول وبعض المنقول، وأن درء ذلك التعارض لن يصح إلا بإعادة قراءة تلك المرحلة التي اختلف فيها العلماء المسلمون في تقديم الحلول لكيفية درء ذلك التعارض.

استند في فتواه إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنس رضي الله عنه ldquo;إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهلrdquo;، إلى قوله ldquo;حتى يكون للخمسين امرأة القيم الواحدrdquo;، والقيم هنا من يقوم بأمرهن فيصرن له موالي وإماء. بالرغم من أن ظاهر المعنى في الحديث فيه إدانة للجهالة التي تسمح بأن يقتني أحدهم خمسين امرأة تحت ملكيته الخاصة، لكن مع ذلك يظل الفهم الأصولي هو الأكثر شرعية وقبولاً، والدليل استدلاله بالحديث في فتواه الغريبة.

في العصر الحديث لم يعد الرق وما ملكت اليمين أمراً مستساغاً، بل يُعتبر من الانتهاكات الجنائية لأبسط حقوق الإنسان، وأصبحت القوانين الدولية ومنظمات حقوق الإنسان تعتبره جريمة في حق الإنسان، وأن حريته وكرامته فوق أي اعتبار، وإن كانت الدعوة للرق تحمل صبغة دينية، وتستند إلى نصوص. وحسب فهمي المتواضع لا يمكن أن يقبل أي إنسان متحضر وواعٍ أن يملك أخاه الإنسان بصك شرعي، ولا يمكن أن تقبل دولة في هذا الزمن أن يكون على أراضيها سوق للنخاسة، تُباع فيه النساء والأطفال.

ما زال المسلمون يختصمون في أمور شتى مع مفاهيم العصر الحديث، ولم يصلوا بعد إلى صيغة تُحِدُّ من ذلك الإصرار العجيب على إعادة الحياة لمفاهيم اجتماعية عفا عليها الزمن، ولم تعد أمراً مقبولاً في هذا القرن، ولا يمكن بأي حال إنكار حقيقة ثابتة، هي أن العلم والعقل كسبا معركتهما في مختلف المجتمعات ضد دعاة الاحتكام إلى الفهم الماضوي، ليس فقط مع الفقهاء والأصوليين المسلمين، بل مع مختلف الحضارات في العالم؛ لذلك أصبحت الجهات الرافضة لسيادة العلم الحديث تتجمد تحت درجة الصفر في ترمومتر الحضارة الإنسانية.

يأتي على رأس هذه القائمة أتباع الفهم السلفي للدين الإسلامي، وأنا هنا لا أعني سلفية محددة، ولكن أي مذهب أو طائفة تُقدم الفهم الماضوي في أمور الدنيا والطب والعلم والسياسة على أنها أصول وثوابت لا تصح مخالفتها، وبيت القصيد في هذه المعضلة أنهم ما زالوا لا يفرقون بين النقل في الأمور الدنيوية والنقل في الشريعة والعبادة، وبمعنى آخر لا يوجد عندهم خط فاصل بين الوحي والنصائح الدنيوية والمفاهيم الاجتماعية، بالرغم من أن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام أسس لحد فاصل بينهما عندما تراجع عن نصيحته في عدم تلقيح النخيل، وقال مقولته الشهيرة ldquo;أنتم أدرى بشؤون دنياكمrdquo;، وهو ما يعني أن الأمور الدنيوية نتاج للخبرة والتجربة الإنسانية.

يدخل في ذلك ما يُطلق عليه بالطب النبوي، وما يعتقد فيه البعض أنه علم قائم بذاته بالرغم من أن الطب الحديث أصبح قريباً من الهندسة الوراثية، التي قد تغير من طرق علاج الأمراض التقليدية في المستقبل القريب. وما أود الوصول إليه أنه على سبيل المثال يجب قبول نتائج الأبحاث التجريبية والعلمية عن الحبة السوداء، واعتبار النقل الوارد عن منافعها الطبية نصيحة دنيوية، وليس حقيقة مطلقة فيها الشفاء من كل داء، وتلك الرؤية للأمور الدنيوية عبَّر عنها عليه الصلاة والسلام عندما قال ldquo;أنتم أدرى بشؤون دنياكمrdquo;، وعندما أشار إليها في المواجهات العسكرية، حين قال ldquo;بل هو الرأي والحرب والمكيدةrdquo;، كذلك هو الحال في أمور الطب وغيرها.

من أسباب استمرار التصادم والتعارض بين النقل والعلم أن بعض المحسوبين على السلفية الدينية، الذين تبحروا في العلوم الحديثة وعلوم الجزيئيات والطب الحديث، يتهربون من مواجهة الأصوليين المفتين والفقهاء في هذا الأمر، وذلك عندما يصمتون عن قول الحقيقة حين يشتد الصراع بين نتائج العلم الحديث وبعض النقل في أمور أثبتت التجارب الإنسانية والعلمية عدم موافقة بعضها للعلوم الحديثة، وذلك إما مراعاة لمصالحهم الفئوية، أو خوفاً من خسارة مكانتهم العلمية في ذلك المجتمع المغلق.

وفي هذا السياق لا يمكن أن أنسى ذلك الحوار الذي حصل بين جراح قلب محسوب على التيار الديني السلفي وعالم شهير على شاشة التلفزيون، وكان السؤال عن مريض تم نقل قلب متوفَّى هندوسي إلى صدره، وبعد عملية النقل استيقظ المريض المسلم، ولم يتغير إيمانه بالله عز وجل، وأن ذلك دليلٌ على أن الإيمان ليس محله القلب، ولكن موضعه الدماغ الذي يُعتبر العضو المنتج للعقل والعلم والإيمان والأخلاق، لكن ذلك الشيخ الشهير رفض الحديث في الأمر، ونهى السائل عن إثارة الشكوك بين العامة من المسلمين.. وحسب وجهة نظري يمثل هذا النهي أحد أهم العوائق خلف استمرار التعارض بين النقل والعلم في عقول المسلمين. والله المستعان.