خليفة راشد الشعالي


قد يختلف الباحثون في تسبيب أو شرح المصائب العربية، ولكن جلّهم سيوافقون على أن الأمة كلها تعيش في حالة من عدم الوزن، وفي نظرة سريعة إلى مؤشر أداء الأمة منذ نصف قرن تقريباً، فإنه لا مناص من التسليم بأن أداءها ينحدر بشكل دراماتيكي مخيف، والكائن المريض الذي كان يرجى شفاؤه في سبعينيات القرن المنصرم، صار في عداد الموتى حكماً هذه الأيام، ولأنه لا وريث ظاهراً له فإن تركته سيتقاسمها الأغراب ممن يدعون الولاية والنسب البعيد، أو أولئك الذي نشأت لهم حقوق عليه بفضل رعايته وحضانته مريضاً أو خدمته عندما كان صحيحاً، وقد يكون هؤلاء أوصياء على تركته إذا ما حكم بموته في محكمة غربية أو شرقية، تملك سلطة إصدار الأحكام الدولية، على أمل أن يأتي يوم يدعي بعض الناس أهليتهم للحصول على بعض مما ترك مورثهم .


ليس الرائي كالسامع، وقد رأيت أمة وقفت مؤسساتها الرئيسية تمثل على خشبة مسرح الكوميديا الرخيصة، بينما التحديات التي تواجهها في منتهى الخطورة، ويكتفي قادتها بأدوار هامشية خلف الستارة المعتمة، بينما خزائن الأمة تفنى وخيراتها تنهب، وشعوبها تقتل وتشرد إلى أصقاع الدنيا، وفي الملاجئ والمعسكرات تنهش الأجساد البريئة من قبل الذئاب الآدمية، ذئاب تتبرأ منها الذئاب، لأن الآدمي لا يأكل لحم أخيه ميتاً فكيف به يأكل لحم أخواته وهن على قيد الحياة . رأيت وسمعت عن أمة يذبح رجالها مثلما تذبح النعاج، وتسبى نساؤها ويغتصبن، ولا يجد أطفالها ما يقتاتون منه . أمة باتت نخبها سكرى منتشية بنصرها على بعضها بعضاً في أروقة السياسة المقيتة، بينما قياداتها تدفع كل يوم إلى زقاق مظلم لا تستطيع الخروج منه إلا إلى المقابر والسجون والمعتقلات، بينما هي تصفق لهزيمة بعضها بعضاً، حيث النواخيس تدس في أجسادها . وقيادات أوهمت شعوبها على مدى ستين سنة أنها تقودها لتحرير فلسطين، ويثبت التاريخ أنها أهدرت كل الوقت والمال والرجال من أجل تثبيت حكمها، وأن العدو المفترض ما هو إلا صديق يساهم في ثباتها وزيادة قوتها وضامن لبقائها والدفاع عنها إذا ما ثارت عليها شعوبها . ولهذا ضاعت فلسطين وضاع غيرها من أقطار الأمة، والحبل مازال على الجرار، ومتوالية الضياع متواصلة، ولا عزاء للشعوب إلا الركون لنظرية المؤامرة، كأن المؤامرة ظاهرة كونية غريبة، أو أنها اختراع فريد قصد به إفناء أمة العرب .
في هذه البيئة الزاخرة بالعبث، تُنَصَبُ الجامعة العربية على رأس هرم الأمة وهي كما أثبتت الأحداث ليست مؤسسة مستقلة بقرارها، بل هي وحدة إدارية تصدر قراراتها وفق ما يتوافق عليه الأعضاء المكونون لها . ولهذا فإن هذه المؤسسة التي أنشئت قبل إنشاء الأمم المتحدة، لم يسجل عنها يوماً أنها اتخذت قرارات تحقق تطلعات الشعوب العربية .


ولا تقل الحالة العبثية في أروقة النخب العربية وقياداتها وأعضائها، عما يحصل في الجامعة العربية، فجل هذه النخب متماهية مع السلطة وتدور في فلكها، فمدعي الديمقراطية لا يمانع من معاونة العسكري لتثبيت حكمه إذا ما كان هذا الأخير يؤمن له دوراً هامشياً في سيناريو الشهرة والإعلام، ومدعي الليبرالية لا يهتم كثيراً باستقلالية قراره إذا ما كانت السلطة ستشركه صورياً في بعض الأمور، ومدعي التدين لا يمانع من ارتياد الوسائل المحرمة التي توصله إلى غايته وصعود خشبة المسرح السياسي والتنعم بالنفوذ والسلطة، والعسكري العربي لا ينفك من رفع شعار quot;لا صوت يعلو فوق صوت المعركةquot;، ومع أن المعركة غائبة والصراع يقوده العسكري ليحرم الجميع من مجرد التفكير في خوض غمار تجربة الحكم الحقيقية، فإن قوة السلاح ستبقى لتتحكم في مشهد العبث العربي .