نجوى الفوال


يبدو ان صمود مصر ـ مجتمعا ودولة ـ امام التحديات التي واجهتها طيلة السنوات الثلاث الماضية قد اثار حفيظة القوي التي كانت تأمل في انهيارها اسوة بزميلاتها في تجربة الربيع العربيrlm;,rlm; مما دفع تلك القوي أخيرا إلي الكشف عن وجهها القبيح بكل سفورrlm;.rlm;

فقد نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالها الافتتاحي منذ عدة أيام يحمل عنوان: علي الإدارة الأمريكية مواجهة ضغط الجيش المصري من أجل حكم سلطوي حيث تبدأ الافتتاحية بأنه بات من المؤكد ان خارطة الطريق التي يتبناها النظام الحاكم المؤيد من الجيش المصري علي حد تعبيرها لن تقود إلي حكم ديمقراطي بل إلي حكم اوتوقراطي سوف يمنح القوات المسلحة صلاحيات استثنائية, ويقصي في الوقت نفسه الحركات الإسلامية من النظام السياسي القادم.
واستندت الجريدة في ذلك إلي ما تعتقده من أن نسخة الدستور التي ستطرح للاستفتاء تؤمن للفريق السيسي الاستمرار في حكم مصر سواء من خلال موقعه الحالي كوزير للدفاع أو كرئيس قادم لمصر, وهو الاحتمال الأكثر توقعا, كما ذكرت ثم تستعدي الصحيفة الادارة الأمريكية علي ان تفرض المزيد من العقوبات علي مصر, وهكذا تحمل افتتاحية واحدة من أكثر الصحف الأمريكية انتشارا وتأثيرا في عملية صنع القرار الأمريكي اتهامات صريحة للجيش وقيادته بالالتفاف علي السلطة, كما تتضمن تشويها لدستور2013 من قبل ان يقول الشعب كلمته, فيه, لتسقط بذلك قناع المساندة الغربية لارادة هذا الشعب وتظهر في سفور العداء لحالة احتضان الجيش لتلك الارادة وحمايته لها.
وليست هذه هي المرة الأولي, ولن تكون الأخيرة التي يخرج فيها الإعلام الغربي قاصدا عن عمد تشويه صورة مصر بعد ثورة30 يونيو, فمنذ اللحظة الأولي لاندلاع شرارة تلك الثورة وقنوات هذا الإعلام وصحفه وبعض مواقع الأخبار علي الانترنت, لا تكف عن وصف ما حدث وقتئذ بالانقلاب العسكري ضد ما اصطلحت علي انه الحكم المدني المنتخب ديمقراطيا لأول مرة في مصر, كما تزخر الأنباء والتقارير حتي الآن بتزييف للواقع وبكم هائل من المغالطات وتتناوله بشكل سلبي في إطار من التضخيم والتهويل لما يجري من مظاهرات وحوادث عنف لتصور مصر وكأنها تعيش حربا أهلية, ورغم وجود جيش من المراسلين الأجانب, إلا ان هذه التقارير تعتمد باستمرار علي مصادر جانب واحد وهو جانب الاخوان وتروج لادعاءاتهم واتهاماتهم للدولة, وتناسق أيضا وراء ما تبثه قناة الجزيرة من لقطات اثبت بعض الشباب من النشطاء فبركة غالبيتها وهي في ذلك تبعد عن الحياد أو حتي التوازن الإعلامي المتفق علي أهميته في مواثيق الشرف العالمية.
اما الأخطر من ذلك كله فهو ما تصدره وكالات أنباء غربية ومراكز عالمية لها سمعتها من دراسات تدعي موضوعيتها وحيادها العلمي حول الأوضاع السلبية لبعض القطاعات في مصر, أو ما تقوم به بعض بيوت الخبرة من استطلاعات للرأي العام تصور مصر منقسمة علي نفسها, ولعل المثل الصارخ علي ذلك هو التقرير الصادر مؤخرا عن ترتيب مصر بين الدول العربية من حيث أوضاع النساء وحقوقهن واحتلالها للمركز الأخير وهو ما يعد نموذجا واضحا للاستخدام السيئ للعلم في خدمة السياسة, وقد لايتسع المجال هنا لاستعراض المسيرة التي مضي فيها كفاح المرأة المصرية منذ مطلع القرن العشرين وحصولها علي حقوقها السياسية والاقتصادية قبل أي من قريناتها العربيات اللاتي مازالت بعضهن يعانين من حجب الحقوق الاساسية للمرأة, إلا انه يكفي استعراض الأحداث منذ ثورة يناير2011 للوقوف علي الاسهامات التي لاتنكر للمرأة المصرية دفاعا عن حرية الوطن وحق ابنائه في الحياة الكريمة والعادلة, وكم من مسيرات خرجت تحت شعار نساء مصر خط أحمر انتفضت فيها مصر بشبابها ومثقفيها قبل نسائها دفاعا عن حقوق المرأة المكتسبة وكرامتها ومكانتها في المجتمع, الأمر الذي يجعل تلك الدراسة ونتائجها محل شك كبير من ناحية الدقة المنهجية العلمية, وايضا من حيث ما يقف خلفها من نوايا وأغراض سياسية في المحل الأول.
وقد سبق هذا التقرير آخر صدر من منظمة التنافسية الدولية الذي صنف مصر كأسوأ بلد في العالم من حيث نوعية التعليم الابتدائي, مستندا إلي معيار التنافسية للمنتدي الاقتصادي العالمي الذي يعتمد114 مؤشرا بينها التعليم والصحة والأسواق المالية والمؤسسات والتقدم التكنولوجي حيث جاءت مصر في قاع قائمة تقرير التنافسية العالمي واحتلت المركز الأخير بين سائر بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا باستثناء اليمن, كما صنف هذا التقرير مصر ضمن آخر10% من دول العالم من حيث كفاءة سوق العمل, ومع التسليم بسوء أوضاع التعليم في مصر وارتفاع معدلات البطالة فيها, والواقع المضطرب لسوق العمل والذي تأثر بشدة بما تشهده مصر من احداث منذ ثورة يناير, إلا ان هناك العديد من المآخذ المنهجية والعلمية علي تلك التقارير التي تعتمد علي المزج بين بيانات احصائية محلية ودولية وبين نتائج استطلاعات لرأي الجمهور العام في مجالات يصلح فيها التطبيق علي النخب المختصة الأمر الذي ينتقص من مصداقيتها.


ويثير كل ما سبق العديد من التساؤلات حول الدور الذي تؤديه تلك التقارير الغربية, بحثية كانت أو اخبارية, والتي تهدف إلي نشر صورة سلبية مكتملة الأركان حول تدني الأوضاع في مصر في شتي المجالات, وتسوق لفكرة انهيار النظام العام في مصر بعد30 يونيو, وعدم قدرة النظام المؤقت علي فرض الاستقرار سياسيا والوفاء بالتزامه نحو تنفيذ خارطة الطريق التي توافقت عليها قوي المجتمع وجبهاته السياسية, ويسعي الغرب بقيادة الولايات المتحدة من هذه الحملة المستعرة والمستترة احيانا إلي تحقيق عدد من الأهداف:
فعلي مستوي الجبهة الداخلية في مصر فإن الهدف المباشر هو إيجاد حالة من الاحباط العام وعدم اليقين, والتأثير سلبيا علي شباب الثورة بالأخص بنشر الاحساس بعدم جدوي ما تم انجازه ودفع قطاع عريض منهم إلي غياهب اليأس والسلبية مرة أخري, بالاضافة إلي اثارة الريبة في مقاصد الجيش وفي نواياه في الابتعاد عن الحكم, والتشكيك في كل خطوة تخطوها مصر نحو المستقبل, ومن ثم يتم شق صف جبهة30 يونيو لتتصاعد الدعاوي من أجل موجة جديدة من الثورة في يناير القادم, وقد بدأ بالفعل الصدع في تلك الجبهة بعد ان صدر قانون تنظيم التظاهر في توقيت خاطئ, وما تلاه من صدامات بين بعض رموز شباب الثورة وقوات الشرطة, وتصاعد لنغمة التخوين وتقسيم القوي الوطنية إلي جبهات ومعسكرات.


اما علي المستوي الخارجي فان الغرب لن ينسي للشعب المصري أنه بخروجه ضد حكم الاخوان قد تصدي لمخطط الشرق الأوسط الجديد الذي كما هو معروف يعيد تقسيم المنطقة بالتحالف مع قوي الإسلام السياسي في المنطقة.
وما الموقف الرسمي الغربي المدعي لمساندة ارادة الشعب المصري إلا واجهة يحتمي خلفها بخططه الخفية التي يريد بها استعادة سيطرته علي مجري الأحداث في المنطقة, ومن ثم فإن الترويج لصورة سلبية حول الواقع المصري يتيح له التحرك مرة أخري متي كانت الظروف مواتية لفرض المخطط الذي أفشلته ثورة يونيو, أو علي اضعف الاحتمالات فإن تأثيره طارد بلا شك للسياحة وللاستثمارات الخارجية, وهو مايكبد الشعب ثمنا غاليا جزاء تجروئه علي الغرب.


وهكذا تستعر محاولات الاغتيال المعنوي كلما اقترب موعد الاستفتاء علي الدستور باعتباره نقطة فاصلة في وضع خارطة الطريق موضع التنفيذ, فهو أول اختبار حقيقي لارادة الشعب منذ ثورة يونيو, وعلي القوي الوطنية ان تستشعر خطورة تلك المرحلة في مسيرة الحضارة التي سارت فيها مصر عبر آلاف السنين, والتي شهدت حقبا من الضعف والوهن, إلا انها عاشت عهودا اطول من الانتصارات والفخار الوطني كانت فيها ملهمة لشعوب أخري تري فيها النموذج والقدوة في السعي نحو الحرية وامتلاك الارادة الوطنية.
أستاذ بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية