السيد يسين

عرضت في خمس مقالات متتابعة الأفكار الأساسية التي طرحتها في محاضرتي التي ألقيتها في جامعة laquo;زويلraquo; عن laquo;مشكلات البحث العلمي في الوطن العربيraquo;.

وقد ناقشت عدة موضوعات أساسية أبرزها المداخل الأساسية لدراسة مشكلات البحث العلمي، والنظام السياسي والبحث العلمي، والأمن القومى والبحث العلمي، والمجتمع العلمي والنخبة السياسية، وأخيراً الاستراتيجية العلمية بين الرغبة والقدرة.
وقد قام قرائي الكرام بتعليقات متعددة على كل مقال من هذه المقالات، وهى زاخرة بوجهات النظر التي تضيف إضافات قيمة لما طرحته من تحليلات حتى تلك التي مثلت ملاحظات نقدية لاجتهاداتي الفكرية.

وقد قرأت بإمعان كل التعليقات، واكتشفت في بعضها تشخيصات دقيقة لأزمة البحث العلمي في الوطن العربي.

وقد لفت نظري التشخيص الدقيق الذي قدمه الدكتور laquo;الشاذليraquo; الذي حدد أسباباً متعددة للأزمة. من أبرزها أولاً laquo;عدم الوعى الكافي (للبحث العلمي) من قبل الدولة والمثقفين والباحثين لأهميته، ثانياً عدم التمويل الكافي له من ميزانية الدولة، وكذلك عدم مساهمة الشركات ورجال الأعمال في تمويله. ثالثاً اهتمام الباحثين بالجانب الأكاديمي وإهمال الجانب التطبيقي له، رابعاً عدم التنسيق وتبادل المعلومات بين مراكز البحث العلمي مما يؤدي إلى تكرار الأبحاث، خامساً لا يوجد أرشيف مفهرس ومبوب حسب التخصصات العلمية يمكن للباحثين الاطلاع عليه لمعرفة ما سبق من الأبحاث.

سادساً عدم التخلص من البيروقراطية التي تعوق البحث العلمي، وندرة البعثات العلمية لمراكز البحث العلمي في الخارج، والمكافآت الهزيلة للمشرفين على الأبحاث العلمية، وعدم استفادة الدولة والشركات من الأبحاث التطبيقية للمراكز العلميةraquo;.

وأنا أعتقد أن هذا التشخيص الدقيق يلخص فعلاً أهم أسباب أزمة البحث العلمي في الوطن العربي.

أما الدكتور laquo;مجدى يوسفraquo; الذي نشر على المقالات عدة تعليقات فهو يعرض في الواقع نظرية نقدية متكاملة والتي بدأها بفكرة جوهرية هو أنه لا يمكن للسياسة العلمية أن تقوم بدون استراتيجية مجتمعية. وأنا أفهم هذه الملاحظة على أساس أن غياب رؤية استراتيجية شاملة للمجتمع من شأنها أن تجعل جهود البحث العلمي تتم بدون بوصلة تحدد أهدافها ووسائلها.

أما الأستاذ laquo;هشام الخميسيraquo; فهو يشير إلى أن أحد أسباب الأزمة أن الجامعات ومراكز الأبحاث لا تنشط لتسويق أبحاثها، نتيجة لعدم ربط جهودها العلمية مع البيئة التي تعمل فيها والمجتمع الذي ينتمى إليه.

وقد طالعت بإمعان التعليقات على المقال الثاني عن النظام السياسي والبحث العلمي.

وقد لفت نظري تعليق نقد على ما طرحته من أهمية الحرية السياسية لازدهار البحث العلمي. فقد ذهب الأستاذ laquo;عتمان خالدraquo; إلى أن الحرية السياسية ليست شرطاً للتقدم العلمي، وذكر أن الاتحاد السوفييتى السابق يصلح نموذجاً لتأكيد هذا الرأي على أساس أن البحث العلمي شهد ازدهاراً شديداً مع أن النظام السياسي كان ديكتاتورياً يقوم على القمع بشكل واسع.

غير أن النظرة التاريخية فيما يتعلق بالمصير الذي لاقاه الاتحاد السوفييى وهو الانهيار الكامل، يؤكد أن مستقبل البحث العلمي المزدهر في نظام سياسي قمعي ليس مضموناً لأن كل البنية العلمية للاتحاد السوفييتي انهارت مع انهيار النظام! ويكفي أن نعرف أن الولايات المتحدة الأميركية استطاعت بعد الانهيار أن تشترى معملاً علمياً كاملاً يزخر بأكثر من ثمانين عالماً مبرزاً مع رئيسه مقابل ثمن زهيد يكاد يقارب مرتب عالم أميركي كبير! ومعنى ذلك أن استمرارية البحث العلمي لا يمكن ضمانها إلا إذا توافر مناخ كامل من الحرية السياسية.

ويواصل الدكتور laquo;مجدى يوسفraquo; تأكيده على أن الهدف من البحث العلمي ينبغي أن يكون مرتبطاً بالسعي لإشباع احتياجات الغالبية العظمى من الشعب المصري، ومن ذلك تحريره من الانكسار أمام النظريات والتوجهات الغربية التي تسعى إلى تهميشه.

والواقع أن هذا الرأي لا يمثل سوى عقيدة إيديولوجية لصاحبه لأنه يعبر عن اتجاه غير علمي يحاول تصنيف النظريات العلمية والمناهج البحثية على أساس التفرقة بين النظريات الغربية المرفوضة والانتصار لنظرياتنا نحن، والتي لم يشرح لنا كيف يمكن صياغتها بعيداً عن تيار العلم المعاصر أياً كانت جنسية منتجيه! وتبدو أهمية هذه النقطة أن النشاط العلمي أصبح في عصر العولمة يقوم على الاتصال الفوري بين مجتمع العلماء في العالم لأن الثورة الاتصالية جعلت الكشف العلمي ينتشر بسرعة البرق بين الباحثين العلميين، وبالتالي أصبح التراكم العلمي لا يتم في سنوات طويلة ولكنه يتم بشكل شبه يومي!

أما الدكتور laquo;محمد منصورraquo;، فقد أجمل في تعليقه على مقال الأمن القومي والبحث العلمي- أسباب الأزمة في مجال البحث العلمي وقرر أن مواجهتها تتطلب عدة أمور. أولاً توفير تعليم جيد للتعليم قبل الجامعي والذي هو المقدمة الضرورية للدراسة الجامعية والبحث العلمي. وثانياً التحرر من عقدة النقص لدى أعضاء المجتمع الذين يجهلون تاريخ العلم العربي ومنجزاته التي أثرت في العلم الغربي.

ويشير إلى أهمية تنمية الإبداع لدى الأطفال حتى يتعودوا على التفكير المنهجي وحل المشكلات. ويلفت النظر أخيراً إلى أهمية إعداد المعلمين باعتبار أنهم هم الذين ndash; إذا ما أحسن تدريبهم- سيتولون صياغة عقول الأجيال الناشئة.

ويثير الدكتور laquo;أحمد الجيوشيraquo; أستاذ الهندسة الميكانيكية ملاحظات نقدية تستحق التأمل على وصفي لمشروع الدكتور laquo;زويلraquo; على أساس أن المدينة التي تحمل اسمه تقوم على مبدأ الاستحداث بمعنى دراسة علوم ليست متوافرة في البيئة العربية.

وربما يكون التعبير قد خانني لأنني لم أقصد أبداً الاستحداث بهذا المعنى، ولكنى قصدت على وجه التحديد فهم ومسايرة الخطوط العريضة والنتائج التفصيلية لمنجزات العلم المعاصر سواء وجدت أم لم توجد في الوطن العربي. ومن قال إن مشروع مصر القومي والذي هو وصف لمشروع مدينة laquo;زويلraquo; منبت الصلة بالبيئة العربية؟

أعتقد أن الملاحظات النقدية الهامة للدكتور laquo;الجيوشيraquo; تشير إلى أهمية تحرير مفاهيم الاستقلال العلمي والتبعية العلمية التي ترد كثيراً في خطابات إيديولوجية في الواقع لعدد من المهتمين بالبحث العلمي في العالم العربي.

وذلك لأن الحقائق دافعة من أن الكشف العلمي الذي يحققه عالم ياباني أو عالم أميركي أو عالم مصري مثل laquo;أحمد زويلraquo; لا شأن له بجنسيته ولا بالمجتمع الذي ينتمى إليه، لأنه ndash; إذا كان كشفاً علمياً أصيلاً وغير مسبوق ومثله بحوث laquo;أحمد زويلraquo;- سرعان ما سيضاف إلى سجل التراكم العلمي وخصوصاً إذا لم يكن مجرد كشف علمي وإنما هو ndash; بالمعنى الفلسفي العميق- ثورة علمية متكاملة الأركان، من شأنها الإضافة الخلاقة إلى منجزات معارفنا العلمية مما من شأنه أن يساعد على حل كثير من المشكلات التي تعانى منها الإنسانية.