بكر عويضة

كما هو معلوم، قلما تخلو نهاية من حزن ما، حتى لو أن مجرد بلوغها هو في حد ذاته مبرر فرح كبير لفرد ما، عائلة، مجتمع، بلد، أمة، أو البشرية كلها، كما هو الحال مع كل احتفال بتوديع عام تصاحبه زينة وبهجة قد يبالغ فيها البعض هنا وهناك، لكنها تظل حاجة ضرورية تحتاجها نفس بشرية أرهقها الركض طوال السنة فتاقت للمرح والبهجة، حتى لو لاحقت فرقعة ألعاب الفرح النارية مآسي ما تحصده نيران الحروب وأهوال الكوارث وتُشرد من بشر.

حقا، يسعد التلميذ اجتياز امتحان الثانوية العامة ودخول الجامعة، ويحزنه فراق مدرسته ومعلمين أحبهم وأحبوه. لكن الشاب سرعان ما يتجاوز حزن لحظات الفراق، ويتهلل بالفرح، إذ يستهل مشوار الجامعة قبل فتح صفحة أي كتاب بفتح سجل صداقات جديدة ستربطه مع طلاب وأساتذة طوال أربع سنين، أو أكثر، حسب طول طريق المنهج الجامعي، فإذا أزفت لحظة الفرح بالتخرج، رافقتها لحظات ألم الوداع وأحزانه، وربما تنهمر دموع يختلط في وهج صفائها ذلك المزيج العجيب من سعادة بلوغ نهاية الشوط بنجاح وأسى مفارقة أصدقاء بعد طول عشرة.

أو يختلف الحال مع انتقال من عمل إلى آخر، حتى وهو ترقية لمرتبة أفضل، أو عند مغادرة مهجر إلى منفى غيره، أو إذا ما صفر الحكم معلنا نهاية المباراة؟ كلا، بل بوسع كل من أمعن النظر، فتأمل بشفافية النفس ما تبصر العين، أن يلمس كيف يغادر المستشفى مريض فرح أن شفي من الداء، إنما بإحساس المتألم لوداع أطباء وممرضين وممرضات قوّت عزيمته لمسات حنانهم، إذ كان فيها الشفاء للروح كما في الدواء للبدن. أثمةَ جنوح للمبالغة، أو شطح على ضفاف اللامعقول، في تخيل حتى أسير حرية الضمير يبرح الزنزانة بفرح يخالطه أسى؟ كلا، لكنه ليس الأسى على فراق ظلام السجن وقهر السجان، بل لأن رفاق ليل الأسر الطويل ونهاراته الكئيبة، سيمضي طويل زمن قبل أن يلقاهم من جديد.

وهكذا إذن، تكون حرية الأسير الفلسطيني سامر العيساوي، صاحب أطول إضراب عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي، مصدر فرح بانتصار إرادة المقهور على ظلم ممارس القهر وجبروته، لكنها تبقى مغمسة بشيء من الأسى، ليس فقط لأن مئات الأسرى الفلسطينيين لا يزالون قابعين في زنازين أطول وأسوأ احتلال عرفه العالم في القرن العشرين ولا يزال مستمرا حتى الآن، وإنما أيضا - وهذا أكثر مدعاة للألم - لأن مستقبل شعب فلسطين بأكمله لا يزال أسير تناقضات تشكل في مجموعها، على الرغم من تنافرها، مظالم تعرقل مسيرة أكثر من ستة ملايين إنسان نحو بلوغ وضع طبيعي يتيح لهم الحياة الطبيعية بالحلو منها والمر، في وطن مستقل، مثلهم مثل غيرهم من البشر. هل من الضروري الخوض في تفاصيل بعض تلك التناقضات أم أن جل الناس، بمن فيهم أغلب الفلسطينيين أنفسهم، سئموا تكرار الحديث فيها وعنها، بدءا بصراعات تمزق صفوفهم، ومرورا بمساومات أحزاب ومتاجرة حكومات بأوضاعهم، سواء فيما تبقى من أرضهم أو بمخيمات شتاتهم، وانتهاء بما آل إليه مجمل قضيتهم؟!

لكن، طالما أن نهاية كل عام ميلادي تلبس احتفالية الفرح بمولد نبي رسالة السلام والمحبة، ليس ثمة بأس من تكرار الحديث والتذكير أن بيت لحم هي مهد عيسى ابن مريم، عليهما السلام، وأن في القدس كنيسة القيامة، وأن عواصم القرار الدولي في عالم الغرب المسيحي تخلت منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، عن أبسط واجباتها تجاه فرض السلام العادل على هذا الجزء من العالم المعذب بآلام الحروب.

ثم مرت أزمان حتى وصلنا إلى زمن يريد البعض أن تضيق به أرض مولد المسيح، عليه الصلاة والسلام، بالمسيحيين من أهلها، بل ليس في فلسطين وحدها، وإنما بمشرق العالم العربي ومغربه. من أين أتى كل هذا البغض، وأي منطق ذاك الذي يمنهج التفريق في الحقوق الأساسية للبشر بين أتباع ديانات تتبع منهج نبي كان أمة، هو الحليم الأواه إبراهيم، عليه الصلاة والسلام؟

تحملني نهاية كل عام إلى أيام كنت وأترابي من التلاميذ اللاجئين في قطاع غزة نردد في الخطب المدرسية، ونكتب في دفتر مادة الإنشاء: laquo;يرحل عام ويأتي عام.. ونحن كما نحن تحت الخيامraquo;. وأنظر الآن حولي، على اتساع عالمي وتمدد فضاءاته، فلا أدري أي أحوال اللاجئين العرب أبكي، إن بقي ما بين الضلوع صدر يستطيع أن يدمع. أليس يكفي أن ترى، بما تبقى من نعمة البصر، أهوال ما يعانيه المشردون السوريون، الذين هم مستورون حتى قريب الأمس في بيوتهم، كي يشق قلبك سؤال لست تدري له جوابا: أهذا هو، بحق، ربيع العرب؟ كفى. لكمْ ولَكُنَّ، لكل من قرأ وقرأتْ ما سبق تمنيات بحال أفضل مع حلول نهاية عام مقبل.