محمد الأشهب

هل كان انقلاباً أم تمرداً أم عصياناً في صراع السلطة في جنوب السودان؟ الأهم أنه بعد حدوث أي انقلاب أو إرهاصات في دول إفريقية، ينتقل التدافع من صراع أفكار وخيارات إلى حروب قبلية وعرقية. حدث ذلك في مالي وأفريقيا الوسطى ومناطق توتر استشرت على الجسد الأفريقي.

إذا كان الاتحاد الأفريقي في قمة الجزائر اهتدى إلى صيغة تحذر الانقلابيين من الإقدام على أي مغامرة للاستيلاء على السلطة على ظهور الدبابات، فإن الاطمئنان لهذه الوصفة التي حمت أنظمة إفريقية من حمى الانقلابات التي لم تهدأ، لم يرافقه تطور سياسي في الاتجاه الصحيح. بخاصة على صعيد التداول السلمي على السلطة وتكريس الخيار الديموقراطي، والحد من تصاعد نزعات البلقنة والتقسيم وتفتيت كيانات دول قائمة.

الواقع أن المخاوف التي حتمت قيام دولة جنوب السودان، من منطلق درء الحروب العرقية والدينية التي سادت فترات الصراع بين السودان وحركة تحرير الجنوب، في ظل وجود معطيات متناقضة بين المنتسبين إلى الديانة المسيحية والمسلمين، لم تتبدد لمجرد قيام دولة الجنوب التي لم يتأقلم سكانها مع المشروع السوداني لإقرار الشريعة الإسلامية دين الدولة ومرجعيتها، فقد اندلعت خلافات وصراعات بين رئيس دولة الجنوب سلفا كير ميارديت ونائبه السابق رياك مشار، تحولت إلى نزاع دموي، استخدمت فيه مرجعيات قبلية وشوفينية ومناطق نفطية وخلفيات عرقية، ما يعني أن التقسيم الذي ارتكز على الهاجس الديني لم يكن حلاً شافياً، وأن فرص التعايش التي غابت بين أبناء السودان الذي لم يستطع أن يكون موحداً، ستظل تلقي بنفوذ سلبي على جزئه الجنوبي، حتى وقد أصبح دولة قائمة. فثمة أشياء لا تحسم فيها خرائط الحدود التي تسطر، في غياب الإلمام بكل معطيات الواقع الإثني والاجتماعي. وبالتالي لا تحسمها كذلك الاستشارات الشعبية التي اتخذت من تقرير المصير شعاراً مغرياً.

لا تسلم كثير من الدول الأفريقية من مخاطر التقسيم العرقي. ففي نيجيريا، أكبر الدول الأفريقية مساحة وثروة، يموج صراع ديني يزيد التعصب في حدته. وفي إفريقيا الوسطى يتناحر مسلمون ومسيحيون في غياب التعايش بين الطوائف، وعلى امتداد رقع أفريقية عدة، هناك رماد تحت النار لا يتطلب أكثر من هبوب رياح تعاود إشعال نار الفتن الطائفية. وثمة مثال سيء تقدمه تنظيمات إسلامية متطرفة، كما يحدث في ليبيا وغيرها، تحت يافطة الاستحواذ على مصادر توريد الثروة النفطية، في طريقه لأن يتمدد عرضاً وطولاً.

في مقابل هذه الصورة المفزعة تكتفي الأمم المتحدة بالاتجاه نحو نشر قواتها في المناطق النفطية في جنوب السودان، فيما المدنيون العزّل من هذا الفريق أو ذاك يظلون عرضة للقتل والثأر الذي كشفت عنه المقابر الجماعية. وما يقع في جنوب السودان لا يقل خطورة عن الصراع الدائر في إفريقيا الوسطى. وإن كان الفرنسيون الذين شجعهم التدخل العسكري في مالي على معاودة التجربة في العاصمة بانغي. لكن مبادرات التدخل سياسياً وعسكرياً لا تلغي أن هناك تناقضات داخلية استحكمت في أجساد دول فشلت في إيجاد مواقع لها تحت الشمس، خارج الاستخدام المفرط والعشوائي لقانون السلاح الذي يريد أن يفرض سطوة تلغي قانون التعايش والتسامح وقابلية الدمج في محيط مشجع، ينبني على تعددية قابلة للحياة.

جزء كبير من هذه المعضلات له علاقة بخلفيات تاريخية، كرست ما يعرف بالحدود الموروثة عن الاستعمار في القارة الإفريقية. ونتيجة لذلك لا تعادل النزاعات الحدودية مثيلات لها في أي قارة أخرى. ثم اضيف إليها هاجس الصراعات العرقية والطائفية والقبلية.

يبدي المغرب عموماً انشغالاً وقلقاً إزاء النزاع الدموي في جنوب السودان. وبدرجة أقل تحظى أفريقيا الوسطى بلفتة خجولة، وقبلها استقطبت مالي مركز الاهتمام، من منطلق أن تطهير شمال البلاد لا ينفصل عن مسارات الحرب على الإرهاب. هنا يبدو الموقف موجهاً ضد تنظيمات إسلامية راديكالية ومسلحة، وفي جنوب السودان يقتتل مسيحيون على السلطة والثروة. وسواء صيغت مقاربات معالجة هذه الأوضاع على أساس أنها حروب دينية أو عرقية أو ثأرية، فإن الضمير الإنساني مطالب بيقظة إزاء حماية ضحايا هذه الصراعات، وتحديداً اللاجئين الذين يتدفقون هروباً من جحيم الاقتتال.

المشكلة أن القرن الواحد والعشرين الذي صادف أنه قرن ذروة الثورة التكنولوجية والعلوم واكتساح العولمة، لا يزال يئن تحت وطأة تيه اللاجئين الذين أصبحوا يشكلون ظاهرة إنسانية وكونية مقلقة. فهل حان الوقت لمعاودة النظر في بديهيات استخدمت لترسيم خرائط الدول والكيانات التي فشلت في الدفاع عن وجودها؟