سعود البلوي

دول العالم الأول هي التي حققت تنميتها عن طريق الرأسمالية، ودول العالم الثاني هي التي حققت التنمية عبر الاشتراكية، أما دول العالم الثالث فهي دول آسيا وأميركا اللاتينية التي ما زالت تكافح التخلف


إذا كان الجذر اللغوي للتنمية يجعلها في مصاف النمو والزيادة، فإنها لا تتوقف عند هذا المفهوم، بل تتعداه إلى ما له علاقة مباشرة بالإنسان. ومن المعروف أن التنمية لا تتحق في دولة دون أن تتضافر كل عواملها وأركانها، وأعتقد أن مثقفاً ووزيراً بحجم غازي القصيبي يعي مفهوم التنمية ويعتبرها هاجساً من هواجسه كمثقف أولاً ثم كرجل دولة ثانياً.
ففي كتابه الصغير حجماً الكبير قيمةً (التنمية الأسئلة الكبرى) طرح الدكتور غازي القصيبي أربعة أسئلة مهمة للغاية في قضية التنمية: لماذا؟ لمن؟ ماذا؟ كيف؟ ويوضح أن ما يقصده بالتنمية هو quot;درجة من التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسيquot;، ويستدرك في الهامش ما وصفه بـquot;المشكلة العويصةquot; في المصطلحات التنموية، حيث كانت الدول التي لم تستكمل أسباب نموها توصف بـquot;المتخلّفةquot;، وبعد وصفت بأنها quot;ناقصة النموquot;، ثم بعد ذلك وصفت بـquot;الدول الناميةquot;، ولذلك فضّل القصيبي استخدام تعبير quot;دول العالم الثالثquot;، حيث قصد أن دول العالم الأول هي التي حققت تنميتها عن طريق الرأسمالية، وأن دول العالم الثاني هي تلك التي حققت التنمية عبر الاشتراكية، وهي دول الكتلة الشرقية، أما دول العالم الثالث فهي دول آسيا وأميركا اللاتينية التي ما زالت تكافح ويلات التخلف.
ويقرّ القصيبي بأن التنمية ليست غاية وإنما quot;هي وسيلة نحو الارتفاع بمستوى الإنسان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. فكلّ ما يؤدي، على أي نحو، إلى الإضرار بالإنسان، جسداً أو روحاً، لا بد أن يكون عملاً معادياً للتنمية حتى لو ارتكب باسمها. أي تغيير لا يخدم الإنسان اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو ثقافياً هو تغيير لا علاقة له بالتنميةquot;.
هذا تأكيد من شخص مهم، على المستوى الثقافي والسياسي والتنموي، فرجل بمكانة وفكر وتجربة الدكتور غازي القصيبي تجعله ينظر إلى التنمية لا كعنوان عريض بقدر ما ينظر إليها كتفاصيل صغيرة ومهمة، إذ يعتبر أن مأساة التنمية في الفهم، حين استقر في الأذهان أن quot;التغييرquot; بحد ذاته هو التنمية. ويستشهد بتجربة مصطفى كمال أتاتورك، واصفاً إياه بأنه أول زعيم يبدأ هذا الانحراف الفكري، حين تصور أن التنمية تعني تغيير هوية تركيا كدولة شرقية إسلامية إلى دولة أوروبية علمانية.
كما يضيف غازي القصيبي مثالاً آخر هو الشاه رضا خان بهلوي الذي نهج طريقة أتاتورك نفسها، فكانت النتيجة كما يقول quot;مضحكة مبكيةquot; يصعب على العقل تبريرها، ومن ذلك أن الشاه منع تصوير الجمل باعتباره حيواناً بدائياً يرمز إلى التخلّف!
ويعلّق القصيبي بالقول: إن القادة الحقيقيين المرتبطين بروح ومشاعر الشعوب يدركون أن التنمية لا يمكن أن تفرض بقرار quot;فوقيquot; يتجاهل حاجات الناس وعاداتهم وتقاليدهم، وفي المقابل فإن التنمية المتوازنة ليست عصية على الفكر المستنير والإرادة المصممة، إلا أن الكتّاب والباحثين في مسألة التخلف لم ينطلقوا في دراساتهم من فراغ، بل كل انطلق من افتراضات افترضها ومشى في نتائجها، سواء أكانت فرضيات عقائدية أو سياسية أو علمية غير متحيزة لعقيدة أو مذهب سياسي. وحول سؤاله: لماذا ننمي؟ يحسم القصيبي الإجابة بالتأكيد أن التخلّف ليس قدَر الإنسان المحتوم، بل قدره الحياة الكريمة وهذا ما يضمنه له الإسلام.
أما لمن تكون التنمية؟ فيؤكد القصيبي أن الجواب البديهي هو أن التنمية تكون quot;لصالح أكبر عدد ممكن من المواطنينquot;، إلا أن البشر كثيراً ما يتوصلون إلى إجابات خاطئة يقضون معها قروناً أحياناً قبل الوصول إلى الإجابات البديهية الصحيحة. وحين يتحقق الرخاء لكنه لا يعم الجميع تكون التنمية ناقصة، والأمر كذلك حين يزداد الغني غنى ويزداد الفقير فقراً، وبالتالي لا يكون سؤال quot;لمنquot; وارداً فحسب، بل هو من أكثر الأسئلة إلحاحاً!
ولهذا يطرح القصيبي سؤالاً آخر: من هم الذين استفادوا من جهود التنمية في العالم الثالث؟ ويجيب: بأن المستفيد الأول في كل مكان هم الصفوة الحاكمة، يستوي في ذلك أن تكون هذه الصفوة عسكرية أو حزبية برلمانية، بينما المستفيد الأول والأكبر من التنمية هو الجهاز البيروقراطي الهائل الذي يمد أذرعته الطويلة مثل الأخطبوط في كل زاوية ومكان في العالم الثالث.